بخلاف الديوان الأول للشاعر، الذي اختار له عنوان “ما قبل الكلام”، يقترح علينا محمد بنيس هذه المرة خبرة شعرية و رؤياوية جديدة من خلال عنوان – ميثاق، لا محيد لنا من أخذه مأخذا جادّا، ألا و هو “كتاب الحبّ”. و برجوعنا إلى عناوين مجموع الدواوين التي أصدرها لحدّ الآن و هي” “ما قبل الكلام” (1969)، “شيء عن الاضطهاد و الفرح” (1972)، “وجه متوهج عبر امتداد الزمن” (1974)، “في اتجاه صوتك العمودي” (1980)، “مواسم الشرق” (1986)، “ورقة البهاء” (1988)، “هبة الفراغ” (1992)، “كتاب الحبّ” (1995)، يواجهنا تمفصل عنواني، لا يخلو من دلالة، لا نذهب، طبعا، إلى حدّ الإقرار بمفصلته، تبعا لذلك، لكلّية تجربته الشعرية، لأن ما يعنينا منه، أساسا، هو ما يمكن اعتباره تناوبا لحدّي “الكلام” و “الكتابة” على المسار العنواني لهذه التجربة. فإذا ما كان عنوان الديوان الأول ينصّ على “الكلام”، و عنوان الديوان الرابع يستخدم لفظة “الصوت”، إحدى قرائن “الكلام”، فإن الديوان السادس لسوف ينتظمه عنوان يتضمّن إحدى قرائن “الكتابة” و هي “الورقة”، في حين يؤطّر الديوان الأخير عنوان يؤمّ علامة ذات تواشج دلالي أيقوني مع “الكتابة” و نقصد بها “الكتاب”.
بناء على هذا التقرّي أفلا يصدق أن نقول بأن الشاعر لم يفعل، في الديوان الأول، شيئا أكثر من إعداد نفسه للكلام الشعري، بينما سيخوض في لجّة هذا الكلام طوال الدواوين الأربعة الموالية، أمّا الكتابة الشعرية فلن يشرع في التمرّس بها إلاّ انطلاقا من ديوان “ورقة البهاء” ريثما يقع تكريسها، إن شئنا، في ديوان “كتاب الحبّ” ؟
و عليه فرغما من تفهّمنا لوجهة نظر نقدية تنزع إلى احتساب ديوان “في اتجاه صوتك العمودي” برزخا بين أفقين متمايزين في المنجز الشعري لمحمد بنيس، فإن الصّائب، فيما نرى، لهو اعتماد ديوان “ورقة البهاء” و التّعاطي معه، بالتالي، بوصفه مدخلا فعليا و أصيلا إلى أفق مغاير للأفق الشعري الأول، سواء من حيث الوعي أو من حيث الأداء. فالديوان إيّاه يشكّل تحوّلا فارقا في إنتاجه الشعري، و ذلك لأن ديوان “مواسم الشرق”، السابق عليه، و إن كان قد أرهص بالوفير من القسمات أو، بالأولى، الإبدالات الروحية و المعرفية، و كذا البنائية و التخييلية، التي ستهيمن على الدواوين اللاّحقة، يبقى، لقرب المسافة الزمنية و الفكرية بينه و بين “بيان الكتابة” ، الذي سوف يحرّره الشاعر في غمرة الهبّة الشعرية و الثقافية الطّموحة التي نهضت بها مجلة “الثقافة الجديدة” التي كان يديرها، متصلا اتصالا مباشرا بما سيفجّره “البيان” من أسئلة و قضايا و تطلّعات، أيّ محض عيّنة نموذجية للمنحى الشعري الذي صمّم الشاعر على اتّباعه وفاء منه لروح ذلك “البيان” و تماهيا مع استهدافاته. و إذن فقد كان لابد من تصرّم مسافة زمنية كافية حتى تختمر تلك الروح و تستوي تلك الاستهدافات في وعي الشاعر و في مخيّلته سواء بسواء، و أيضا في انتظار أن تتراكم لديه قراءات أكثر نضجا و انفعالات أكثر جذرية ليكون بذلك ديوان “ورقة البهاء” عتبة هذا الأفق الشعري الجديد، المتجاسر، و المفتوح على أعتى الضّراوات الروحية و المعرفية، البنائية و التخييلية، ثم ليعقبه ديوان “كتاب الحبّ” كدليل على استمساك الشاعر، عن تبصّر و عن مجازفة في آن معا، بهذا الأفق الشعري المكلّف، على أكثر من صعيد، و الذي ما كان له إلاّ أن يحفزّه على مغامرة شعرية شائكة تتجلى في محاولة إعادة بناء واحد من المصنّفات الاستثنائية في التراث العربي، و نعني به “طوق الحمامة” لابن جزم الأندلسي، و بالضرورة تعمّد اختراق واحدة من المناطق الحسّية و الشّعورية و الذّهنية الأشدّ فتكا، رهبة، و اختلاطا في المتخيّل الروحي و الثقافي العربي – الإسلامي، ألا و هي منطقة الحبّ، بما هي منطقة تبادل عاطفي – جسدي ملغّز بأكثر الالتباسات استعصاء على الحدس و بأفدح الاستفهامات إقلاقا للفكر و تنغيصا عليه.
من هذا الضوء فإن من أولويات التجربة الشعرية، المضنية و الشيّقة في نفس الوقت، القائمة في رحاب ديوان “كتاب الحبّ”، مثلما يتداعي من صيغته العنوانية، هو أن توفّق الكتابة الشعرية إلى تحويل انتوائها الإبداعي المعلن عنه إلى منجز لغوي، مجازي، و معرفي، متعكّزة في هذا المضمار على إرث رمزي، منكتب سلفا، يمثّله كتاب “طوق الحمامة”، داخل أبجدية الجسد و مراتب كتابته، و أيضا داخل اشتراطات الحداثة الشعرية و اقتضاءاتها. إن “كتاب الحبّ”، كميثاق قرائي في المبدأ، يكثّف، دونما مواربة، مرامي هذه التجربة الشعرية التّخومية، من حيث تطلّعها إلى إسعاف الكتابة في نيل هويتها الشعرية المستحقّة، كأثر في بياض الورق، و كدمغة في النّصاعة المتبلّدة للعالم، أو من حيث اقتيادها إلى مدار الجسد الإنساني، عاشقا و معشوقا، حافرا و منحفرا، كيما تنشئ تاريخا متخيّلا، يبقى متعذّرا رغم كل شيء، للحبّ، أي لبلاغة الانجساد و أهواله، لسيمياء التلذّذ و آلامه و، بالتالي، لجماع ما يصنع لحظة الحبّ من سلط و ترميزات و اندياحات متجبّرة. فالكتابة الشعرية و هي تنيط بذاتها، في مقام شعري كهذا، أن تلتقي ب “طوق الحمامة”، كفرع من فروع شجرة دمها الرمزي، و بحداثتها، في هاوية الحبّ السحيقة، و في مأساوية رضوضها و جروحها، بله مجهوليتها، لهو الرهان الأكبر الذي أزمعت على ربحه هذه التجربة الشعرية معوّلة على إمكاناتها و مؤهّلاتها، أوّلا، و على المؤازرة النصّية و الدلالية، الجوهرية و الفاعلة، لجملة من النصوص المرفقة.
بهذا المعنى فإن مرحلة (الماقبل) في “ما قبل الكلام” لا تبرح كونها مرحلة الصمت أو السديم، مرحلة (ماقبل) تخلّق اللسان الشعري، و النطق المموقع الدّال، أمّا مرحلة الكلام فهي مرحلة تبدّد طاقات الكلام الشعري في خواء الصفحة المريع و انتثارها في مسمع مثقوب لعالم غير مبال. و في المقابل فإن ما تتوخّاه مرحلة الكتابة، التي يعدّ هذا الديوان ذروة اعتمالها، فهو الانتقال بالفعل الشعري من دائرة الصمت و النّهيليستية، من صبغته الكلامية – الإيصاتية، إلى حضور رمزي مشخّص، إلى متعيّن نصّي و دلالي يستضيء ب “طوق الحمامة” و يضيئه، يستهدي الحداثة و يهديها مبلورا، و هو يستغور أسطورة الجسد، كتابا / سفرا / ذاكرة شعرية للحاضر و المستقبل، إذ “.. مع الأثر، وفقا لما تستثيره الكلمة، ينفتح الخطاب على مقولات مستجدة تندرج إلى مجاله، و أساسا على مقولات إجرائية أو ذات صلة بالإنتاج و العمل” .
فأن يتمّ الإلحاح على اعتناق الشعر لشريعة الحبّ، ثم الإصرار على الزجّ بهما سوية في مضايق المكتوب، و ليس في انشساعات المتكلّم به، فهذا لممّا يشهد على تعلّق التجربة الشعرية بالانضواء إلى عين المصير المجازف الذي اجترحته، في مضمار تمخّضها و تشكّلها، مشاريع روحية و إبداعية عميقة سوف تصرّ، من غير ما تحرّج كان، على اشتقاق تسميّتها من جذر “كتب” متخذة لنفسها هوية عنوانية من شقّين دلاليين: الكتاب كشقّ أوّل تحكمه، نحويا، عاملية الإضافة، و المحمول الروحي أو الإبداعي الذي اختصّت به، كشقّ ثان مضاف إلى الكتاب، و ذلك كمعادل أو، بالأدق، كجزاء منصف لضخامة أعبائها الأونطولوجية و الثقافية، و كذلك كعنصر تعاقدي مندمج في استراتيجية خلخلة ثوابت التقبّل في الحقل التداولي الموجّهة إليه و إرباك تقاليده و أصولياته. إنه عين المصير الذي انخرط فيه، على سبيل التمثيل، “كتاب الموتى” المصري القديم، و “كتاب الاعتبار” لأسامة بن منقذ، و “كتاب المواقف” و “كتاب المخاطبات” لمحمد بن عبد الجبار النفّري.. “كتاب المواقيت” لراينر ماريا ريلكه و “كتاب التحولات و الهجرة في أقاليم النهار و الليل” و “الكتاب” لأدونيس، و “كتاب الدّم” لعبد الكبير الخطيبي.. بما هي كتب راهنت، كلّ منها في سؤاله المخصوص، على منح حيّزها المتضايق هيئة رحابة تخييلية مترامية تسع ما ناءت به من متعاظم الشواغل و جسيم التوضّعات، غائر الاستبصارات و مستحيل الاستشرافات. و كما راهن ابن حزم على تطويق ما يندّ عن التطويق، أي سؤال الحبّ، في سياج نصّ تحليلي، استبطاني، تأمّلي، و حكائي.. كتبه من داخل الأطر التاريخية و الدينية و الأخلاقية و الثقافية لمجتمعه الأندلسي، فإن الرهان المركزي للشاعر، في هذه التجربة الشعرية، هو أن يطوّق، من جهته، كتاب “طوق الحمامة” و سؤال الحبّ دفعة واحدة، مع ما في الأمر من استعصاء، من داخل شرط زمني و إبداعي مغاير، ضمن مساحة نصيّة مسطّرة سوف يصمّم على تعميدها بتسمية “كتاب الحبّ”.
هذا و بقدر ما ينشدّ مصير هذه التجربة الشعرية إلى ذات المصير المجازف الذي انشدّت إليه الكتب الملمع إليها، على سبيل التمثيل كما قلنا، فإنها تؤول، عمقيا، إلى سياق أشمل لعله سياق التعالق التاريخي الحادّ بين الكتابة و الجسد، أو بين تعيّن المقدّس كألفباء و كلمات و نتف و أساطير و ملاحم و مدوّنات..؛ موصولة بالسماء أو بالماوراء، و تعيّن الجسد كطاقة أرضية و مستودع لكمونات معقدة و متداخلة كالأهواء و الغرائز و النزوعات و الاندفاعات.. فقد انولدت الكتابة، في فجر المدنيّة الإنسانية، في تماسّ مع الرغبة في التواصل مع المقدّس و إدناء تجريدية اللاّهوت من ملموسيّة النّاسوت، سوى أن هذا الأخير سوف لن يتورع عن أن يحفر لانفعالات العشق و النزوة و التدنّس و، بالتالي، لنداء الخطيئة مجرى، مكشوفا أو مستترا، داخل صلادة المكتوب المقدّس، أي في القلب من سلطته، عاملا بذلك على إعطاء تجوهر الإنسان تعيّنا رمزيا يتحرّر عبره من وطأة الانضغاط داخل مشاعر الخشية و التعفّف و التّقوى.
إن انفتاح الرّقم الطينية، السومرية و البابلية و الآشورية، أمام المكتوب العشقي، الشهواني، ليحتل موقعه إلى جوار المكتوب القدسي، الفضائلي، القرباني، بناء على ما يقدمه نموذج أغاني الحبّ العراقية القديمة، و على رأسها الطقس الغنائي المعروف بطقس “الزواج المقدّس”، أو على شاكلة ما يوجد في سفر “نشيد الإنشاد” العبراني من تداخل رفيع و محيّر بين الاستغراق الديني الخالص و بين البوح العاطفي المستعر، الذي تصدره العاشقة اليهودية شلوميت، ذلك “.. أن قراءة سريعة لقصائده الجنسية الشهوانية كافية لإقناع القارئ غير المتحيّز بأن الكتاب ينضح حبّا و عاطفة و شهوة و رغبة” ، بحيث “.. كان الربّانيون مقتنعين تماما أن “نشيد الإنشاد” بكلّيته، ما كتب إلاّ من قبل الملك سليمان الذي كانوا ينظرون إليه على أنه مزيج نادر، و إن كان متناقضا، من حكيم و شاعر و عاشق” . و بالموازاة من هذا لا تخلو الكتابة الهيروغليفية، باعتبارها ثمرة من ثمرات المقدّس و إحدى وسائط التزلّف إليه، من هذا التضمين، إذ من خلالها كان العاشقان الملكيان المصريان القديمان، خفرع و مينا، يمهران رغائب روحيهما – جسديهما في الوصال و الحبّ أسفل المسلاّت المشرئبّة، على الغرار من الأهرامات، إلى حيث يطلّ الإله / الشمس “رع” من عليائه على مخلوقاته المتضائلة. أمّا في الشعائر الموسمية الديونيزوسية فقد كان الشعب الإغريقي لا يستنكف عن تفجير لاشعوره الجمعي المحجوز، في نطاق ممارسة تعبّدية في الأصل، سواء عبر الغناء أو الرقص أو التمثيل أو حتى تعهير الجسد، بينما، و إلى عهد قريب نسبيا، لم يحسّ رجل الدين المسيحي المشهور، فيليب دي فيتري، أيّما غضاضة، بباعث من أخلاقه الكنسيّة المتسامية، في أن يكتب في الحبّ واحدا من أعمق المؤلفات التي جاد بها القرن الرابع عشر الميلادي، و هو كتاب “أخلاقيات مسوخات أوفيديوس”، الذي سيسعى فيه إلى موضعة العاطفة الإنسانية داخل موقعها المستحقّ من وقار الشريعة الدينية و معقوليتها الضّميرية.
هذه الأمثلة، و غيرها، لاشك في أنها تبيّن المدى الذي بلغه التفاعل بين المقدّس و المدنّس أو، بالحريّ، الدرجة التي أدركها اختراق المدنّس للمقدّس انسجاما مع البعد المركّب للشخصية الإنسانية، بمعنى اتّساقا مع نزوعها الروحي الارتقائي و أيضا مع انغوائها بإغراءات الحضيض الأخلاقي الممجوج ممّا يثبت استمساك الإنسان بحقه في أن يكون ذاته، في ألاّ يلتفّ على جوهره أو أن يعفي عليه. و لأن السلطة، بصرف النظر عن زمنها و مكانها، تمثّل منظومة من آليات الضبط و التحكم و التقنين يتصدّرها الخطاب الديني الذي يقف بالمرصاد في وجه أيّة محاولة قد تروم التشويش على نفوذ المقدّس أو إرباك تداعياته في العقول و الوجدانات، فهي قد تلجأ، أحيانا، إلى التساهل مع المدنّس في تعبيره عن نفسه، بل و قد تستحثه على هذا التعبير لكن بما لا يصطدم مع مرتكزاتها الإيمانية المطلقة، و في هذا الاتجاه يمكننا قراءة معظم الكتب التراثية التي عالجت موضوع الحبّ، و منها كتاب “الرّوض العاطر في نزهة الخاطر” للشيخ محمد النفزاوي الذي سيباركه الوزير محمد عوانه الزواوي، أحد كبار رجالات البلاط الحفصي بتونس إبّان القرن السادس عشر الميلادي.
على أن الركن الأكثر إثارة، و مفارقية كذلك، في هذه الكتب هو أنها تعكس، و بشكل واضح، الوجه الخلفي، الآخر، لمؤلفيها الصارمين، المتجهّمين، المتقطّبي الأفئدة، سيان كانوا فقهاء، أو متكلّمين، أو مناطقة، أو رواة سير و أخبار، أي كونها تضع موضع سفور الرغبة اللاّواعية للمؤلف في أن يكون ذاته، في أن يستنصت هواجسه الباطنة، و يتوافق مع ما يمليه عليه جسده و روحه هو من التياعات و شراهات، و من هنا أهمية هذه الكتب و امتيازها الإمتاعي الفريد، ذلك “.. أن لذة النص تقتضي أيضا أوبة حبيّة من لدن المؤلف، بحيث إن المؤلف الذي يعود ليس هو، بتاتا، ذاك الذي قنّنت هويته داخل مؤسّساتنا (تاريخ الأدب و تعليمه، تاريخ الفلسفة و تلقينها، خطاب الكنيسة)؛ بل و لا صلة له حتى ببطل سيرته الحياتية. إن المؤلف الذي يقدم من نصّه و يمشي في رحاب حياتنا لا يملك أيّة وصفة أحادية ما دام مجرد متعدّد من غوايات” . لذا، و على منوال إصرار الماركيز دي ساد على أن يكون، في التجاويف اللاّمرئية لنصوصه، ذاته لا أقل و لا أكثر، و كما أشاح الاشتراكي المثالي، شارل فورييه، بخياله عن الصورة – المستنسخ التي / الذي تكوّنت / تكوّن عنه في الوسط الفكري الفرنسي، و على نحو ما فعل الراهب إغناسيو دي لويولا عندما انزاح عن رواقيته العقدية الاستسلامية مستنبتا، من لبّ البلاغة الإنجيلية، نبرة كتابية جعلها طوع استيهاماته الكيانيّة الفائرة، سيتلامح ابن حزم، مؤلف “طوق الحمامة”، مختلفا عن ابن حزم الآخر الذي كرّست شخصيته الاعتبارية كتاباته الفقهية و الفلسفية أو، لنقل، بالحريّ، إنه “.. إذا كان الجانب الأكبر من حياة ابن حزم قد انقضى في الصراع الفكري و الخصومات المذهبية، فإن ثمة جانبا آخر من حياته قد انقضى في حبّ الجمال و الكتابة عن العشق و العشاق. و إذن لم تكن حياة ابن حزم في مجموعها صراعا و حربا، و إنّما كانت أيضا مودّة و حبّا، أو هي على الأصح كانت استقطابا حادّا و توتّرا بين الحرب و الحبّ” .
أيّهما، إذن، الأوفى تعبيرا عن حقيقة ابن حزم، هل ألمعيته في اللاّهوت، علم الكلام، و المنطق، أم الحميمية التي ترشح بها كتابته عن موضوع في مقام الحبّ ؟ و بصيغة أخرى أيّهما أكثر إنباء عن ذاته، هل كتاب “الفصل في الملل و النحل”، أم كتاب “طوق الحمامة” ؟ على أيّ، و مهما كانت نوعية الإجابة المترجّحة في هذا الشأن فإن ابن حزم و هو يكتب عن الحبّ، واثقا من إجازة الدين لتناول موضوع كهذا، إذ نلفيه، و هو يفتتح باب “الكلام في ماهية الحبّ”، يؤكد أن “..الحبّ – أعزّك الله – أوّله هزل و آخره جدّ. دقّت معانيه لجلالتها أن توصف، فلا تدرك إلاّ بالمعاناة، و ليس بمنكر في الديانة، و لا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ و جلّ، و قد أحبّ من الخلفاء المهديين و الأئمة الراشدين كثير..” ، فإنه ليتيح لنا أن نلامس، ضمنيا، الوجه الخلفي لشخصية المثقف الظاهري الرصين التي ختمتها إواليات التقبّل الثقافي العربي – الإسلامي، أي كجسد ناقص يحوج كمال الحبّ و روح مرتجّة عشقا و صبابة. نقول كجسد و روح لأن ابن حزم و هو يفسح لتجربته العشقية الذاتية رقعة مناسبة في زحمة مروياته عن أجساد و أرواح امتلكت خبرة عالية في مباهج الحبّ و تباريحه فذلك ليثبت ألاّ مندوحة له هو عينه عن أن يحيا الحبّ، كمشترك إنساني، و ينقل، بالتالي، استخلاصات معيشه العشقي إلى الآخرين توسطا بنص يلزمنا، إن نحن أردنا أن ندلف إلى عنفوان انكتابه، أن نقرأه قراءة عاشقة، لأن هذا الصنف من القراءة هو وحده المؤهّل لصيانة خيالنا من الارتطام، في المحصّلة، باستحالة الحبّ، و باستحالة الكتابة فيه و عنه !
و إذا كانت هذه حال ابن حزم فماذا عساه محمد بنيس أن يقترح إبداعيا كيما يغالب هذه الاستحالة المركبة التي لم تقف في وجه صديقه الرمزي فحسب، بل و كان لها أن اعترضت كل الفلاسفة و الرسّامين و الموسيقيين و الروائيين و الشعراء..؛ الذين راهنوا على ممالاة هذا الموضوع المستصعب و إكساب أعمالهم مراس الاقتراب منه ليس أكثر ؟
اتّساقا مع الملحظ الذي سبق و أن سطّرناه بخصوص التحول الذي عرفه مسار الشاعر نجدنا غير متردّدين في الإفصاح عن تثميننا لمسعاه الدؤوب إلى تطوير كتابته الشعرية، سواء من حيث الجنوح إلى طرق موضوعات و شعرنة رؤيات أكثر تغوّرا في تربة الهموم الوجودية للإنسان أو من حيث العكوف على إنضاج سبل الأداء الجمالي و التخييلي. إن انفكاك صوته الشعري من إسار الحماسة الإيديولوجية لعقد السبعينات و من اختلاط أسبقياته و تلابسها، ثم مع الاختمار المتّئد لأفكار “بيان الكتابة” و طموحاته، و الذي يختزل وجهة نظره في المسألة الشعرية، سيأخذ هذا المسار ليس في التحول و كفى، بل و في الارتقاء كذلك، ممّا يعطي دواوينه الأخيرة صفة أدراج لا تني متصاعدة.
لقد كانت الخبرة الوجودية الشعرية التي أثمرتها تجربة ديوان “ورقة البهاء” تتعلق بأنا شعرية تعود إلى زمن و مكان بدئيّين بعد أن داهمتها، في أطوار ما بعد الطفولة، شراسات أزمنة و أمكنة لن تقوى، مع ذلك، على قطع حبل السرّة الذي يربطها بعالمها الأول و مصادرة تاريخها الشخصي الرمزي، و لعل هذا ما كنا قد حلّلناه، ضمن مقاربتنا للديوان، في أثناء دراسة نقدية سابقة . سوى أن الزمن و المكان لا يستجمعان رمزيتهما الدالّة إلاّ عبر ما نسقطه عليهما من مشاعر و انفعالات و توترات، و ما نشحن به فراغهما الفادح من ذوات و حيوات و مجريات تنصبّ في حسابنا الوجودي الخاص لا في حساب الغير. من هنا فرغما من المنحى التّعويمي الذي سلكته المواظفة التخييلية و الترميزية لمدينة فاس، كزمن و مكان ذاكريّين يعنيان كلّ أولئك الذين ينزفون، بتفاوت، من الجرح الفاسي، فإن الضمير الأكثر تعلّقا بمدينة فاس، أو بفاس التي لا يكاد يدركها الآخرون، يبقى، حتما، هو الأنا الشعرية التي لم تكن مدعوة فقط إلى العثور على بهاء تلك اللحظة المدوّخة، لحظة السقوط من رحم الأمّ، و تشخيص جغرافيا تلك الدار الأولى التي اقتبلتها مقيمة تحمل معها أسئلتها و وساوسها و حدوسها، و إنّما هي كانت مطالبة، فضلا عن هذا، باستعادة فتنة المرأة الأولى التي حدث أن انسلّت، ذات لحظة أخرى مدمّرة، من حفلة الحياة المبذولة لتدع الأنا الشعرية، المقيمة الحالمة، تتدبّر شأنها الوجودي و الشعري مع إقامتها الجوهرية بالقصيدة و لا شيء غير القصيدة.
و إذا كان أوديب قد عثر على طيبة، أي على مسقط رأسه، و لكنه ضيّع جوكاستا، أمّه، التي انتحرت عقب علمها بأن من تزوجّها هو ابنها الذي تجهله، فما من شك في أن أهون الضّرر، وجوديا و شعريا، بالنسبة للأنا الشعرية القابضة بزمام تجربة ديوان “ورقة البهاء” هو أن تقوم الدار الأولى مقام سلوان لذات اغتصب منها إرثها الأمومي. و ما دامت أيّة إقامة رمزية إلاّ و تستوجب حلول امرأة تغدق عليها معناها، بله جوهريتها، أفليس بمقدورنا، و الحالة هذه، القول بأن تجربة ديوان “كتاب الحبّ” هي بمثابة محاولة لاستعادة تلك الأمّ المنفلتة، من قلب قرطبة، بمعية صديق رمزي، من قامة ابن حزم، سوف لن يبخل على الأنا الشعرية بما يدريه عن حارات قرطبة و أزقّتها، داراتها و عرصاتها، مجالسها و منتدياتها، واضعا بين يديها التاريخ الحميمي السرّي لعشرات النسوة الجائز أنهن أندلسيات، لكنهن في الحقيقة مواطنات كونيات يحتمل أن تكون بينهن المرأة – الأمّ حيّة ترزق إمّا في صلب حكاية، أو في تفاصيل مشهد، أو في تضاعيف استعارة شعرية، ممّا يحفل به الأثر الباذخ “طوق الحمامة” ؟
و عليه فإن تجربة الديوان لهي، في الواقع، تجربة سفر رمزي إلى فضاء اليتم و الفقد و الموت، عبر طريق قاسية هي طريق الحبّ أو، بالأولى، طريق الآلام، تفقّدا لامرأة – أمّ لا يعقل أن تكون قد تقصّدت مكانا آخر غير مكانها الأندلسي الأثير، بما هو المكان الذي سوف ترهص به فاس، في ديوان “ورقة البهاء”، نازعة، بالقوة و بالفعل، إلى الانتقال من مدار أخوّتها مع عدن إلى تآخيها مع قرطبة، في ديوان “كتاب الحبّ”، و إنه لأدعى إلى التأمل أن نرى الشاعر يتحدث عنها بهذه النبرة المأساوية، قائلا: “.. و لم أر إليك بعد اللحظة الليلية في غرفة معلقة بالنجوم التائهة. و هل وضعوا عليك الوشاح الذي تستحقين، و هل منحوك الوشوشة الضرورية لتحتمي من صمت طويل ؟ و هل كانوا أوفياء لوداعة بها يحملون جسدك المنهوش، سيّدتي ؟ ” ، مثلما هو أدعى إلى التساؤل هل هي الرغبة في رؤيتها، و توشيحها، و الوشوشة في روحها إيناسا لها في خلوتها المطبقة أم تراها لفتة تودّد نحو جسدها المنهوش، المنثور في مختلف التلاوين الجسدية المتخيّلة في الديوان ؟
إن رهبة سفر رمزي من هذا القبيل و عسورته، في اتجاه امرأة منفلتة، عبر مفازات كتاب “طوق الحمامة” لتستوجبان حتما رفقاء آخرين، من غير ابن حزم، يمكن أن تشكّل رفقتهم طاقة تحفيز للمخيّلة و صمّام أمان للكتابة أمام احتمال انخطافها أو رجحان تلعثمها في هذا المضمار الصعب فتكتفي، مثلا، بترصّد هذه المرأة في بعض الالتماعات الاستعارية الخاطفة، أو في بعض المنعرجات المجازية المباغتة، بينما هي مهيّأة للحفر عميقا في طبقاتها هي، و في أديم عشرات الأجساد الأنثوية المستهامة و ذلك تحرّيا عنها. و من هنا قيمة الخدمة الإبداعية التي سوف يسديها لهذه التجربة الشعرية كلّ من الرسام العراقي المتميّز ضياء العزاوي و الشاعر العربي الكبير أدونيس. فعلاوة على كونهما معنيين، حتى النخاع، بالنزول ضيفين رمزيين في عالم “طوق الحمامة”، و باستضافته في نفس الآن، فإنهما، و هما يقدمان مؤازرتهما الثمينة للشاعر، كانا مدركين، لا محالة، لجسامة الأهوال التي يمكن أن يلقاها الشاعر في تضاعيف سفره الرمزي هذا.
إن ذيل عنوان الديوان يفيد أن “كتاب الحبّ” عبارة عن (تقاطعات في ضيافة طوق الحمامة لابن جزم الأندلسي)، و أن الرسوم المصاحبة من توقيع ضياء العزاوي، مع الإشارة إلى أن النص كتب بين مارس و يوليوز 1993، و أن الرسوم أنجزت في صيف نفس العام، في حين تكفّل أدونيس بتحرير مقدمة للديوان. فمن الناحية المبدئية من المسوّغ أن تكون الرسوم تالية، من حيث الإنجاز، للقصائد في ديوان شعري يختار صاحبه الاستعانة بالجمالية التشكيلية، و لهذا قد نستخلص كون ضياء العزاوي لم يعمل، في هذه الحالة، شيئا سوى أن استرفد نصوص “طوق الحمامة” و “كتاب الحبّ”. لكن يظهر أن الأمر، في هذا المشروع الإبداعي، ربّما يكون قد حاد عن هذا العرف، و ذلك بناء على ما يذهب إليه الرسام العراقي نفسه، بحيث يقول: “.. راودتني فكرة الاشتغال على “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي، فاتصلت بالصديق محمد بنيس لكونه شاعرا له علاقة معرفية و روحية بثقافة الأندلس و تاريخها، ثم بدأنا هذه المغامرة بتبادل الآراء و الزيارات بين المغرب و إنجلترا إلى أن اختمرت الفكرة التي أنجزناها على الشكل الذي شاهدتموه” ، ممّا يجعل من الوارد أن تكون الرسوم قد أنجزت، في تزامن مع كتابة الشاعر لقصائد الديوان، انطلاقا من نصوص “طوق الحمامة” أساسا، أو أنها كانت تتمخّض، على الأقلّ، على شكل خطرات و تسويدات. أمّا مقدمة الديوان فطبيعي أن تكون عملا متأخرا، تتويجيّا و، بالتالي، صنفا من ميتا – لغة واصفة للمنجزين، الشعري و التشكيلي، المتعاضدين في كنف الديوان.
و مع ما تكتسيه هذه التدقيقات من أهمية فإن ما يفوقها أهمية هو أن الديوان يقترح علينا أن نسخّر لفائدته قراءة مركّبة تضارع ذات التّراكب الحاصل بين الشعري و التشكيلي المقروءين قراءة تقديمية، أوليّة، لا تخلو من حدب و تضامن، من لدن شاعر كأدونيس الذي يعتبر نفسه، كما أسلفنا، معنيا، كيانيّا، برفقة من هذا الطّراز، بل و لم يتوان عن دعوتنا إلى أن نلقي بأجسادنا، و أرواحنا، و خيالاتنا، في معمعانها، إذ من خلال هذه التجربة “.. يعيدنا محمد بنيس و ضياء العزاوي، بعري بهيّ، إلى هذا المسرح، يغدقان على ظلماتنا أشعّة من نوره، يقذفان جحيمنا اليومي في فيض هذه الأشعّة. لنرافقهما، إذن، في هذا السفر في الجسد، نحو الجسد. ليكن هذا السفر محفوفا برغباتنا، مشعشعا بأحشائنا كأنه منّا و فينا، إلينا. نحيا عاشقات و عشّاقا، بالجسد و الحبّ لكي نتجاوز الموت، نموت بهما لكي نحسن الحياة” .
و بالضرورة فإن الطريق إلى السيّدة الأولى سيقيّض لها أن تعجّ بنصوص – مرافقات انشغلت، هي الأخرى، بسؤال الحب، ك “مصارع العشّاق” للشيخ السّراج، و “الروض العاطر” للشيخ محمد النفزاوي، و “ديوان الصبابة” لابن أبي حجلة، و “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، التي تمثّل دعامات للديوان في استغواره لماضي الجسد، لراهنه، و لمستقبله كذلك. و من ذات الزاوية أيضا يمكن النظر إلى جملة الاقتطافات المجتزأ بها من نصوص دينية، صوفية، و شعرية..؛ بحيث تحوز على نفس الأهلية التناصّية التي تمتلكها، في عرض تجربة الديوان، النصوص الكبرى المذكورة. فرغم كونها مجرد أسطر معدودة أو شذرات أو نتف فهي تغذي خبرة هذا السفر و تمتص، في ذات الوقت، فائض أهواله و خطوبه، بله أنوائه، مذكية، على هذا النحو، المقصدية الرؤياوية المتوخاة من هذه التجربة الشعرية. فمن قول لأعرابية.. إلى بيت شعري لعروة بن حزام، الشاعر الجاهلي الذي أقضّه حبّ عفراء،.. إلى أبيات لشاعر مجهول.. إلى حديث نبوي شريف.. إلى بيتين شعريين للحلاج.. إلى قول لجلال الدين الرومي.. تلتئم علامات الطريق المشتركة المؤدّية إلى حيث تكون الكتابة مدعوة إلى استنهاض كموناتها الرغبويّة، تباريحها، مشاقّها المزمنة، لمّا تعي استحالة انكتابها داخل استحالة معنى الجسد الذي تروم الحفر في جغرافيته المستشكلة و المنيعة.
كلّ العناصر التي استعرضناها هي ما يؤسّس المجال الحيوي لديوان “كتاب الحبّ”، لذا فإن القفز عليها جميعها، أو على بعضها، سوف يخلّ، يقينا، بالنجاعة التأويلية لتجربة شعرية شاءت لنفسها، و حسنا صنعت، أن نتقبّلها مردوفة إلى جماع من المصاحبات، المجاورات، القرائن، و العلامات، التي اتخذت هيئة مواظفات متأصّلة في المنتسج النصّي للديوان. إن الإنتاجية الشعرية، هنا، بقدر ما هي ترتيب لحاجات تناصّية لا غبار عليها، فإن التعدّي النصّي لا يقتصر على اختراق نصوص أخرى أو الانفعال بها لأنه يطول، على صعيد أوسع، حزمة من المسلكيات البراغماتية المبيّتة، كاللّوحة التي يزدان بها وجه الغلاف، و انطلاء ظهره باللّون الأسود، و ذيل العنوان المركزي، و التصدير الافتتاحي، و مقدمة أدونيس، و القصائد، و الرسومات، مع احتساب تموقعات لا القصائد و لا الرسومات في الفضاء العام للديوان، أي سائر الحيثيات التي وضّبت لهذا العمل الشعري قسماته السينوغرافية التي طلع علينا بها. و حينما نقول مبيّتة فلكون الإيضاحات المسطرة تؤكد بأن الخلقة النهائية لهذا العمل، ابتداء من خطوطه الكبرى و انتهاء إلى أضأل جزئياته، هي من تصميم الشاعر و الرسام كليهما، بحيث لم يترك مآل هذه الخلقة لمزاج المصادفة، أو لمشيئة الجهة الناشرة كما يجري في جلّ الإصدارات الإبداعية. و مؤدّى هذا أننا بإزاء عمل شعري يحتّم على القراءة أن تتناوله من داخل المجال الحيوي الموصوف، هذا المجال الذي يقوم على مجموعة من التوازيات النصّية و اللاّنصّية “.. بها يتحول النص إلى كتاب، و يقترح نفسه بهذه الكيفية على القرّاء، و على الجمهور في نطاق أرحب، ليأخذ الأمر صبغة عتبة أكثر منها مسدّا أو حدّا سميكا” .
و إذن فالعمل الشعري، الذي نحن بصدده، يبقى تحقّقا لدافعية برنامجية تحدّد له، مسبقا، وجهته التداولية، بيد أن تنصّله من نفوذهما، نفوذ هذه الدافعية و تلك الوجهة، و اندراجه، مثلا، إلى المشاعية القرائية يفرض على الممارسة التأويلية الانطلاق منه هو، أوّلا و قبل كل شيء، كذات إبداعية اعتبارية سندها الرئيسي هو كفايتها الخطابية [ من الخطاب ] الجوهرية و لواحقها الإخراجية الإضافية، إذ “.. أن حدود التأويل تتقاطع مع حقوق النص (الشيء الذي لا يعني أنها تتقاطع مع حقوق مؤلّفه)” .
إن مستلزم استيفاء الكتابة لتعيّنها اللفظي، التركيبي، الدلالي، التخييلي، و الرؤياوي، و كذا لسداد انحفارها في الجسد الأنثوي، استبطانا و معرفة و ترميزا، بمعنى انكتابها في تلازم مع كتابتها لهذا الجسد، بما هو موضوعها، لهو ما سيضطرها، فيما نرى، إلى التنازل عن بذخها الهندسي و الكاليغرافي الذي حصل أن تشبّثت به و هي تخوض اختبارات شعرية و معرفية انتدبت لها دواوين سابقة للشاعر. فالوقت ليس وقت تخريجات هندسية أو توشيات كاليغرافية كما كان الشأن في تلك الدواوين. إن حديّة موضوع الحبّ، بحسبانه أفقا روحيا و جسديا لا يتكشّف عن شيء من غير استحالة الحضور الأنثوي الخلاّق، تقتضي، فضلا عن التناوب التعبيري الدّال بين الشعري و التشكيلي على الإيهام بهذا الحضور، مواجهة الكتابة لموضوعها من موقع عار، تماما كما عراء الجسد و انجراده، إذ العراء يستدعي العراء. لذا ستنبسط الصفحة، التي هي أرض هذه المواجهة و مهادها، مساحة لانهائية لتجاذب عريين اثنين يستبقان بعضهما البعض جريا وراء احتلال وضح الصفحة و تأميم نصوع نهارها المرعب. بصيغة أخرى إن المواجهة، في هذا الموقف، إن هي إلاّ أحد أشكال التنازع الرمزي بين الكتابة و الجسد من أجل تكييف شفوف الصفحة القاسي و تصييره إلى ضرب من عتمة روحية، من هدأة باطنية، يتهيّأ لهما سوية، من خلالهما، الإدلاج إلى الليل الأصلي، ليل الكتابة المعرّاة، عن الآخر، من كل الاصطناعات و الفضلات، المزيدة، إلاّ من مجازها، و ليل الأنثى المعرّاة، عن الآخر أيضا، من أردية المعقولية، من غشاوات مختلف الإسقاطات الذّكورية، و من تاريخ عريق من الإلغاء و التأثيم و التدنيس، و المنذور اسمها الآخر المضادّ، و أقاصي جسدها الوحشي، الخام، للوقوف وجها لوجه أمام توق الكتابة و عنفها.
إن هذه الثنائية المجازية، ثنائية الكتابة و العري، لمن البروز بمكان، و ذلك على امتداد الديوان، و حسبنا أن نمثّل لها ببعض العيّنات المجتزأة:
شيء من اليد في فمي أو فمها. و أهزّ اليد لتكون أعلى من
صدري. و الشاي يحرق. الحنّاء و الجير. و رأسي هادئ فوق
الأرض. أمرّر اليد على اليد. اليد التي لا تحمل كتابا لأنها
يد في يد …………………………………
……………………………………….
شجرة تدور حولي. أعمدة رخام و نحن على حصيرة. بشرة
سمراء تتعرى. غفوة بين مدينتين. نداء يأتي من الأسفل. ألم
يأتي من الأسفل. شدة اهتزاز. من الأرض إلى الأرض…..
– قصيدة “إليك”، ص 48
لا تخش تبددّا أيها الجسد
و عاريا تقدم إلى عيني
عاريا و محرقا
و في الزوابع انحفر
بشهوة الأخاديد
– قصيدة “جسد من ؟ “، ص 50
فتحة أزرار
ماء على بشرة يفيض و ينساب
تقدم و اسكب عليه
موقد الهوى
و اشرب ما تشاء
من سلسبيل العري ضاحكا
بين يديه
– قصيدة “الحبّ هوى”، ص 60
……………………………. انتميت لعريك
الأبدي. هبوب يد من النسيان. تبسط لي وداعتها. فلا تخش
أن تكون. أنت. حروبك أن تبادر بانغراس. في المكان الحرّ.
حيث صبابة تحتدّ فيك. عريك أوّلا……………….
– قصيدة “إليك”، ص 70
كنت بين يدي والدي
و قد أمرني بكتاب أكتبه
فلمحت عيني امرأة قطّعني حبّها
لم أملك نفسي
رميت الكتاب
و بادرت نحوها
– قصيدة “وجه يلسع”، ص 78
كانت قليلة الكلام
دائمة القطوب
تزدان في المنع و البخل
و كان للعود بين أصابعها
عطر
و ظلال
و عري خفيّ
– قصيدة “وجه يسعى”، ص 86-87
………….. باحثا أطوف عن نجمة آشور أو أغنية
غرناطة القريبة. أطوف بين كتب و عرّافات واثقات من
خطوط كفّك. و أستحلفكنّ يا بنات القيروان. لي
قناديل احترق زيتها. و العظم عظمي. تهبّ عليّ صورة
فأقول لشهوتي ممشاي أنت………………….
……………………………………
……………………………….. لمعان
عابرات بهن كنت التقيت بين بياض كتب سعيدة. و احتفى
المتاه بالمتاه. إلى أين نمضي أيتها اليد المذعورة
بالمستحيل ؟ لم تعد لدينا غير الأسوار فالأسوار فالأسوار.
– قصيدة “إليك”، ص 97-98
جنوني أملس و في أقفاصه أدنو
من طفولة الحبر
أدنو
من دماء رأس
وحيدا يتدحرج على أرض كتاب
– قصيدة “سؤال نفسي”، ص 109-110
و الماء الذي وحده يفضّل و دفاتره
التي يطلبها و لا يكتب فيها شيئا
و الصراخ المتصاعد. و الأثواب التي
يمزّقها و نومه على برودة الزّليج
و العزوف عمّا يكتبه الفقيه و الحجاب
المعلّق على صدره و النافذة التي
أغلقوها و دقّوها بالمسامير.
و كانت الفجيعة
وجدوه في الصباح مشنوقا
و على الطاولة أوراق بيضاء
– قصيدة “أوراق بيضاء”، ص 118-119
متاهي متاهك أيتها الشجرة
و أعرف أنك لا تأتين
من الغرب
و لا
من الشرق
بل أنت بالأحرى في كتاب ترتجفين
و هم يحرقون الكتب
و يبشرون بصورة تموت عند ولادتها
– قصيدة “رسالة إلى ابن حزم”، ص 129-130
ففي غمرة التفاعل المجازي المضطرم بين كتابة تهفو إلى أحقّ مراتب انجسادها و بين الجسد الأنثوي الذي لا يدثّره سوى ما كان من إهابه الاستعاري، و لا يملك غير أبجديته المستغلقة و سيرته الكونية المأساوية، تنهض اللحظة الشعرية، العشقية، الأمومية، طافحة بندوبها، جراحاتها، و احتداماتها، و تنبلج معها لقطة جذرية، تليدة، و خالصة من كامل الأدران و التشوّهات التي راكمتها أعصر من العماء الروحي و التكلّس العاطفي. و مع أنها لحظة أليمة و مكلّفة فإن انبثاقها من عمق متخيّل فردوسي يسكب عليها نكهة لحظة حبورية، جذلانة، و تكوينيّة كذلك، لأن الكتابة و هي تكبّ على الجسد المستهام شبقة، دائخة، و مسلّمة في حطام العالم و نعمائه، ما خلا حداثتها، لا تصنع هذا الجسد من خلال تماثلاته المفترضة مع جسد عالم معطى، و إنّما هي تكتبه اهتداء بمجهوليته، بالتباس عريه، و بما وراء العري من ممكنات و استحالات أو، لنقل، إنها، و هي تنشئ من مجازها جسدا كوسموبوليتيا لا يشبه إلاّ مطلق عريه، لا تغفل أن تحوّل فضائحية الصفحة إلى نوع من برّانية حميمة لعالم رمزي مستحدث داخله تقيم الكتابة و الجسد إقامة لحظة الحبّ المتخلّقة من نطفة التغريب الخيالي:
…………………………… تحتدم
الشساعة كلما ابتدأت نواعير المياه بأحقاقها تدور
و تغسلنا شيئا فشيئا. تنحلّ الكلمات. و الأعضاء تستلذّ
ما يجذبها إلى أسفل الماء. موجة فموجة. شفتاك تقتربان
من كفّي. كيف انتسبنا إليك. انغرسنا في جحيمك
التففنا. انحشرنا…………………………
– قصيدة “إليك”، ص 21-22
الشمس و القمر من ماء المحبّة يولدان
لكلّ منهما أخاديده
و في اختلافهما يتوحّدان
– قصيدة “سؤال نفسي”، ص 110
إن لحظة شعرية، عشقية، أمومية، كهاته لتتفتّح عن لقطة معافاة من كلّ الرّطانات، بحيث و لا لغة تعلو فوق لغة البوح، الأسراريّة، الشهوة، و الانغداق السّخي، رغم ما قد توحي به من اعتيادية تظل، عمقيا، لحظة استثنائية، منقطعة عن سواها من اللحظات إلاّ فيما يخص كونها لحظة عشق. فما تجترحه من آلام و مباهج يندلق، للتّو، من فجائية التّماس بين مجازين لاهبين، مجاز الكتابة و مجاز العري، و ما تبتنيه من تواريخ، و مصائر، و فداحات، جميع هذا الذي تعتلج به يجعلها نسيج وحدها و يمنحها، رغما من ضؤولتها، طعم لحظة وجودية دهرية جبّارة يخيّل إلى من يتملاّها أنها قديمة قدامة الكينونة و جزء لا يتجزّأ من ديمومتها. لهذا فإن “طوق الحمامة” و هو يؤرخ للعديد من المحكيات العشقية التي تهمّ أناسا بعينهم “.. فكأن ابن حزم يضع أساسا مهمّا، و هو أن التجربة العاطفية فردية في جوهرها، و لا تتكرر، و إن تشابهت حكايات المحبّين و مواقف العشّاق فهو الشّبه الخارجي” . إن استثنائية هذه اللحظة و انقطاعها ما هما إلاّ امتداد لفذاذة النسوة اللاّئي يملأنها بالصّبابة و البذل و الوجع الفريد و يسبغن عليها مغزاها الأنثوي المتعذّر، و من ثمّ جنوح الشاعر إلى ترسّم السّيماء الأنثوية المستحيلة لنسوة لا يصنعن هذه اللحظة و كفى، بل و يصنعن للمرء قدره العاطفي المائز و مهبّ غوايته اللاّتوصف:
و عنّي أخبرك أنّي أحببت في صباي جارية
لي شقراء فما استحسنت منذ ذلك الوقت
سوداء الشّعر، و على ذلك كان أبي
– قصيدة “الحبّ سلطان”، ص 32
مستصديا نفس سيماء محبوبة صديقه الرمزي ابن حزم الذي يقول:
“.. و عنّي أخبرك:
إنّي أحببت في صباي جارية لي شقراء الشّعر. فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشّعر، و لو أنه على الشمس، أو على صورة الحسن نفسه. و إنّي لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، و لا تؤاتيني نفسي على سواه و لا تحبّ غيره البتّة. و هذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه، و على ذلك جرى إلى أن وافاه أجله” ، أو مشعرنا محكي الأستاذة التي زوبعت كيان و روح صديق آخر و لو أنه ينتمي إلى زمن مغاير، فإن انتماءه الحقّ إلى هوية لحظته العشقية التي هي من هوية امرأة لا يشبهها حتى ظلّها:
شيئا فشيئا تسلّلت كلمات عن
أستاذة إلى حديثنا. كلمات عن
تحيّة الصباح و تبادل الممحاة
قبل الالتحاق بالقسم و متابعة
الحركة البنيوية في باريس
و اللباس و رائحة العطر و الطريق
المؤدّية إلى بيتها في وادي
الشرفاء
– قصيدة “أوراق بيضاء”، ص 116
و في الحالتين كلتيهما فإن تماهي المخيّلة مع اعتناف الكلف بامرأة دون سواها، و الرضوخ البديع لسلطة إغوائها لهو، في الحقيقة، بمثابة تماه مع بلاغة اللحظة، التي يأخذها المجاز مأخذ تأجيج بالغ، و حيث لا وسيلة للجسد، المنزوع من كلّ شيء إلاّ من عريه، سوى الحدوس، المعارف، و السذاجات أيضا، المنبجسة، لحينها، من قيظ الأطراف، العروق، و المسامّ:
لك هيّأت مسكا و عنبرا و لبان
مزجت ملمسا
بملمس
و قلت للشّفق
أخ النبيذ أنت أخي
طر بي إلى حيث يمحو المعاني عشق الأبد
– قصيدة “هيّأت”، ص 64
……………………….. أدنو من البجع الخفيّ.
أضيع بين غرائبي. هل هذه أنا ؟ أفاريز و أفاريز. عثرت عليّ
فيك. أنت وحدك. عطشي. هذه مضايق أفضت بي. إلى
ما لا تعرف عنه شيئا. أيها العابث بي.
– قصيدة “إليك”، ص 70
و لأن فعل الحبّ فعل شعائري، طقسي، يتعالى ضمنه الجسد بقرائحه التي طمرها نهار العالم فهذا ما يدني لحظته الكثيفة من اللحظة الجذبوية نظرا لاتّسامهما معا باستنفار الجسد و الروح لأقصى ما بحوزتهما من طاقات و مخزونات، و انضوائهما إلى غيبوبة تحرّرهما من أكداس من الأعباء و الأثقال. و ما دام هذا الفعل يستوجب من الكيانات المتعاشقة حالات و توضّعات و استجابات، تتخذ وجوها قربانية محتدّة و جذرية، فإن “.. الجذبة هي طريقة لكينونة الجسد ذات أشكال وافرة، على أن احتمالها يبقى متواجدا في دخيلة أيّ واحد منّا” .
لكن سواء اتصل الأمر بالشقراء القرطبية التي هام بها ابن حزم، أو بالأستاذة الفرنسية التي تيّمت صديق الشاعر.. سواء انعقد الحكي الشعري على حياة زليخة، أو ليلى العامرية، أو حبابة، أو ولاّدة بنت المستكفي..؛ أو على سيرة يوسف، أو قيس بن الملوّح، أو يزيد بن عبد الملك بن مروان، أو الحاجب ابن سهل، أو سليمان بن أحمد، أو الرّمادي، أو ابن حبوس..؛ فإن كافة التّسميات النسوية تبقى مجرد أقنعة تتقنّع بها امرأة كونية واحدة، في الأصل، هي تلك السّيدة الأولى التي عنّ لها أن تهجر ذات برهة، ما انفكت ذاكرة الطفل الذي كبر و ترعرع، تصون تفاصيلها المستدقّة، مثلما تتقنّع الذات الشاعرة بأسماء من نفس السّلالة يوحّدهم يتمهم الروحي المريع.
فهؤلاء النسوة لسن عاشقات متهتّكات أو غانيات مستهترات ما كان يأخذ ببالهنّ هو مداراة لحظة مزلزلة هي أنأى من أن يحطّ بها إلى درك النزوة السّاقطة، و في المقابل فإن أولئك الرجال ليسوا، مثلا، من أرومة العشّاق الطّهرانيين، العذريين، الذين يا ما يهذون بلحظة عشقية تفضل، دوما، مرجأة إلى زمن غير معلوم، لأن “.. العشق العذري محاولة لمواجهة مفارقة الحبّ الكبرى و التغلب عليها باختيار نزعة الاشتداد في الحبّ و رعايتها و تحقيق رغباتها عن طريق رفض العلاقات العاطفية الدائمة المستمرّة بين العاشقين خوفا من أن يؤدّي الرباط المقدس أو ما يشبهه إلى اضمحلال العشق و خفوته” .
إن لحظتهم، على العكس من هذا و ذاك، لهي مزيج معجب من الحياء و الغواية، الاعتفاف و الجرأة، إنها لحظة تشكّل روحي و توقّد جسدي بدونهما لا يتاح أن تقوم شعرية الحبّ التي هي شعرية الانفلات من رتوب الروح و خمول الجسد و اقتيادهما مندغمين إلى مهاد رحمي، ليلي، مضادّ لتمطّط العالم و نهاريته السّافرة. قد يكون شبرا من أرضية ملساء، أو سريرا منضغطا، أو ركنا خانقا، أو سردابا معتما..؛ يرشح بما في الاستيهامات العدنيّة من تهجّد و تنطّع، ذهول و وثوق، توجّس و انتشاء، كرب و سلوى، أنانية و إيثار..؛ و، بالتالي، من توزّع بين التقيّة و بين هاجس السقوط الرمزي إلى مهاوي الخطيئة. “.. فالجماع نسك، له قساوة و هذيان الممارسة الصوفية نفسها. إنه تعبير مربك للحلال و الحرام” .
فأن يكون الزمن الواقعي لحيوات أولئك النسوة و سير هؤلاء الرجال منحدرا من الماضي، و أن يكون الفضاء الذي احتضنها هو بغداد، أو فاس، أو طنجة، أو الدار البيضاء، أو القيروان، أو الزهراء، أو غرناطة، أو مرسية، أو صقلية، أو أصفهان..؛ ثم يضيق ليغدو حيّ العطّارين، أو حيّ السّراجين، أو حيّ المخفيّة، أو وادي الشرفاء بمدينة فاس..؛ فما المانع من قولنا إن الكتابة الشعرية و هي تقوم باستدماج المحكيات العشقية للشخوص المستحضرة في نسيج محكيها هي، و ترهين الزمن الماضي و تحيينه، ثم و هي تشغّل شتات هذه الأمكنة لحساب مكانها الخاص، فإنّما هي، في الواقع، تومئ إلى الظّلال الكونية لامرأة يجعلها الإعمال المجازي المتواتر تتبدّى لنا في كثير من الأحوال و الجغرافيات متستّرة خلف عديد من التّسميات و معمّدة، بالتبعية، عشّاقها بأكثر من تسمية. إن امرأة من محتد كوني نادر لا يليق بها أن تبقى محجوزة في تلك المساحة المشعرنة، و لو على استطالتها، لهذا فجائز أن نلقاها في بطرسبرغ.. البندقية.. بوغوتا.. كالكوتا.. أو في تمبوكتو..؛ ربّما في البراري الصقيعية للقطب الشمالي.. في نقطة ما من صحراء الأوغادن بالقرن الإفريقي.. أو في جزيرة تايتي بأرخبيل بّولينيزيا..؛ أو، احتمالا، في حيّ البيّازين بغرناطة.. حيّ خان الخليلي بالقاهرة.. أو حيّ السّويقة بالرباط..؛ فتتلبّس، و الحالة هذه، بهيئة امرأة شاميّة تقتعد، كئيبة شاردة، سفح شجرة ظليلة في غوطة دمشق.. امرأة هندية، في منامتها الحريرية، مسترخية على واحد من السّرر الوثيرة في قصر تاج محلّ الخرافي.. امرأة فارسية ملفّعة بالتشادور و هي تذرع، خفيفة، أحد شوارع شيراز.. امرأة صينية محشوة في لبستها الكاكية الباهتة و هي قافلة إلى منزلها، منهوكة، من مصنع بضاحية شنغاي.. امرأة زنجية تنوء برضيعها المنغرز في ظهرها و بجرّة الماء المثبتة على كتفها و هي تمشي الهوينى صوب مضارب قبيلتها في جهة ما بالسّفانا الكينية.. امرأة أمريكية يافعة مقمّطة في سروال جينز و هي تراقص خليلها في أحد المراقص النيويوركية.. !
بل و لم لا تكون هي ذاتها لامادونا في لوحة رفائيل.. الموناليزا في لوحة ليونارد دي فنسي.. أو إيزابيل كوبوس في لوحة فرانسيسكو دي غويا..؛ مارغريت في أوبّرا “هلاك فاوست” لهكتور برليوز.. إيزوت في أوبّرا “تريستان و إيزوت” لريشارد فاغنر.. أو شهرزاد في أوبّرا “شهرزاد” لريمسكي كورساكوف..؛ أوفيليا في مسرحية “هاملت” لوليام شكسبير.. جوليا في مسرحية “الآنسة جوليا” لأوغست سترندبرغ.. أو فلاسوفا في مسرحية “الأمّ شجاعة” لبرتولد بريخت..؛ الغجرية إسميرالدا في رواية “أحدب نوتردام” لفيكتور هيغو.. كارمن في رواية “كارمن” لبروسبير ميريمي.. أو لارا في رواية “الدكتور جيفاغو” لبوريس بّاسترناك..؛ بل و لم لا تكون إحدى سليلات هيلانة الإغريقية.. سميراميس الآشورية.. شلوميت العبرية.. ديدون القرطاجية.. كليوباترة المصرية.. أو زنّوبيا التدمريّة..
لكن مهما قد يشطّ الزمن أو المكان بسائر هذه النظائر النسوية المتألقة فهي تمتلك، بشكل أو بآخر، صلة وثقى بتلك المرأة امتلاكها لذريعة الانتساب إلى الأندلس المتخيّلة، في التجربة الشعرية، مصهرة رمزية كونية لنساء و رجال اقتدروا على مغالبة لحظة الحبّ فاقتحموا أتونها الضّاري، مسترخصين رخاوة المعيش و العادة، و متحلّلين من البؤس الماحق للمواطنة الدنيوية الخنوع. و لأن ابن حزم سوف يتخذ من قرطبة بؤرة الأندلس الأخرى، أندلس المودّة، الالتياع الروحي الخلاّق، و الجسدانية المتعالية، فإن “كتاب الحبّ”، و هو ينزل ضيفا عند “طوق الحمامة”، اختار، ضمنيا، تسخير نثار الأمكنة المواظفة في رحابه لحساب مكانه الخاص هو أيضا، و ذلك على الغرار ممّا قلناه قبل هنيهة، أي لحساب قرطبة التي و إن كانت تتراءى كمكان مصغّر فهي بلحمها لذلك النثار في بوتقتها الرمزية، المتنفّذة في لاوعي الديوان، قد أفلحت في التسامي إلى مرقى المهاد الأرضي، أو الماكرو – مكان الأشمل، الموصول بزمنه الشعري الخاص، لأمكنة و حيوات و تواريخ لا حصر لها. فلقد “.. كانت مدينة قرطبة – خصوصا في عهد الأمويين – مركزا ممتازا لهذا التقدم العلمي و الفنّي. فكانت ملتقى الشعراء و الأدباء و الفقهاء و المتكلّمين و علماء الحديث، كما كانت في الوقت نفسه أكثر بلاد الأندلس كتبا، و أحفلها بالخزائن و المكتبات. و لم تكن قرطبة تخلو من منكرات، فقد كانت مسرحا للخمر و اللهو و المجون، و لكنها كانت في الوقت نفسه معقلا للعلم و الدين” .
هكذا، إذن، يندفق، جرّاء ارتجاج مجاز الكتابة و عنف مجاز العراء، مجاز ثالث هو مجاز قرطبة محلوما بها ملتقى لتقاطع المعرفة و اللّذاذة.. التثبّت و النسيان.. الحلال و الحرام.. و الخطيئة و المتاب..؛ ففي ظلّ هذه التشابكات الدالّة تكبّ أرواح و أجساد على استصداء المناداة الأزلية لأرواح و أجساد قرينة، كفؤة، و مسطّر لها أن تمتحن بخطورة لحظة الحبّ – الشعر و تداعياتها المزوبعة. إن الكتابة الشعرية، و هي تحترق بشواظّ هذه اللحظة المستعصية موزعة النفس، نصيّا، بين السّيولة التعبيرية و الحكائية، و المجازية بطبيعة الحال، و بين التشذّر و الانكماش و الانضغاط، إنها، و هي تنتقل بين زمنها الإيقاعي التفعيلي المستقيم و بين زمن منجرف، متلولب، يبلوره الإيقاع المدوّر، ثم إنها، و هي تقطّع جريانها، من خلال قصيدة “إليك” التي تأخذ طابعا عودويا لافتا على امتداد الديوان يجعلها أقرب ما تكون إلى اللاّزمة أو التقفيّة النصيّة الكبرى، و ذلك ابتغاء استجماع قواها و مواردها في أفق تعيّنها كمكتوب حداثي و كذا تعيّن الجسد كمتخيّل عشقي علاوة على تعيّن قرطبة كفضاء حلمي، إنها و هي تباشر كافة هذه التحفيزات الأسلوبية فإن هذه الفاعلية، على مردوديتها، لا يمكنها التغطية على الإشارية الدلالية و التخييليّة و الترميزية التي للعنصر اللّوني، كعنصر تكويني حاسم في الكتابة الشعرية، في بنية الكثير من الصور الشعرية و الأنساق التمثيلية. ف “.. الصورة في الفن التشكيلي يصوغها الخط أو اللون أو المادة الصلبة، أمّا الصورة الشعرية فهي من إيحاء الكلمة التي تشكّل عناصرها، فتأخذ طريقها – بعد ذلك – إلى المتلقّي” .
في هذا الباب فإن اقتران الكلمة بلون محدّد لابد و أن يدفع إلى مساءلة مختلف مستويات إشاريته، ليس في الحيّز السياقي المحصور للكلمة، و إنّما على صعيد الكليّة النصيّة، إذ “.. لا يقلّ استعمال اللون في الشعر أهمية عن استعماله في اللّوحة. فالشعر يسعى جاهدا لرسم المشاهد التي تمتلك الأثر، و تصل في مستواها إلى أثر اللون . و حتى يتضح لنا المنحى الذي سلكته المواظفة اللّونية في الديوان نورد المقاطع الشعرية التالية:
اصطدمنا في زقاق. لعلّه ارتعاشة الكلام. لم يكن بيننا
عطر. هدّدني الغناء. نسيج مبلّل بهجومه. غفوة على
كتفي تنأى بأعضائي. معابر انحفرت في زرقة وحيدة. لنا
معا. أو لي وحدي………………………
…………………………………..
……. ضيعي. قليلا في أبديّتك الخفيفة. قبّة خضراء
تحرسنا معا. أو تحرسني وحدي. مسافة البلّور……
…………………………………..
… اقتربت. وهبتك صمتي الذي لا أملك غيره. ساكنا
بين شقائق النعمان. كأنه راكضا يغمر ضدّه. صمتي الأزرق
سيّدي. في شفيف تمزّق. لنا معا. أو لي وحدي.
– قصيدة “إليك”، ص 21-22
كم ليلة سهرت ؟
و هل هذا القلق لك ؟
متى هجمت عليك حمرتك ؟
أو جمدت عيناك ؟
– قصيدة “الحبّ متعدّد”، ص 26
دم الصباح
دمي الذي وهبته لضفّتيك
ينبئني أن الغناء
هو غناء زرقة
لها انسياب قدميك
– قصيدة “وجه من”، ص 73
………………………………….. لمعان
عابرات بهن كنت التقيت بين بياض كتب سعيدة و احتفى
المتاه بالمتاه
– قصيدة “إليك”، ص 98
أقواس
و خط يد مقطعة
و جبس دائري يصيح: أنا القتيل
و زرقة على حدّ مأساة تحطم من يراها
و ملء أنفاسي مناطق تتفتت و تلتئم
– قصيدة “جنون من ؟ “، ص 101
و كانت الفجيعة
وجدوه في الصباح مشنوقا
و على الطاولة أوراق بيضاء
– قصيدة “أوراق بيضاء”، ص 119
إن الاستعارية اللّونية في الديوان تتراوح بين أربعة ألوان هي: الأزرق، الأبيض، الأخضر، و الأحمر. و من حيث البعد القاعدي أو الثانوي لهذه الألوان فنحن حيال لونين قاعديين هما الأزرق و الأحمر، بمعنى لونين متغايرين، في حين يتعلق الأمر في الأخضر بلون ثانوي، لأنه حاصل مزج الأزرق بالأصفر، أمّا الأبيض فبقدر ما يمكن أن يفيد تكثيف كلّ الألوان يمكنه كذلك الإفادة بالغياب اللّوني، بينما على مستوى إيجابية (سخونة) هذه الألوان أو سلبيتها (برودتها) فنحن بإزاء لون حيوي، قائظ، هو الأحمر، و لونين خاثرين، ملتبسين، هما الأزرق، الذي سيتكرر لأربع مرات، في المقاطع الشعرية الممثّل بها، و الأبيض لمرتين، و كلّ من الأخضر و الأحمر لمرة واحدة لا غير. و إذا ما أخذنا في الحسبان حضور الأزرق في تركيبة الأخضر فسنستحصل صيغة مضمرة لمحايثته الاستعارية المزيدة، الشيء الذي يثبت مدى هيمنته على الألوان الأخرى.
و على قوة ما في الأخضر من إشارية إلى الروعة و الخيال المجنّح، و ما في الأحمر من تضمّنات مأساوية مريرة، و ما يعنيه الأبيض من نورانية و إشراق، فإن ما يكتنزه الأزرق من عمق، لانهائية، و سديمية، بل ومن برودة و خواء لممّا يجعله أكثر وثاقة بنسغ هذه التجربة الشعرية و صميمها. إن اللاّيقين الذي تؤسّسه عبارات “الزرقة الوحيدة”، “صمتي الأزرق”، “غناء زرقة” و “زرقة على حدّ مأساة تحطم من يراها”، لا يمتص فقط المحمولات الدلالية و التخييليّة و الترميزية للألوان الأخرى، مكيّفا مجراها الاستعاري لصالحه، بل و ينصبّ في اللاّيقين الرؤياوي الذي يتعيّن أن تنفضي إليه خبرة شعرية يثمرها الخوض في موضوع جسيم كموضوع الحبّ. و لاشك في أنه لمن قبيل الهاجس اللّوني، لدى الشاعر، ما نلمسه من استمساك باللون الأزرق، أي بلون متاهي، عدمي، يبدّد الأشياء و الأشكال أكثر ممّا يشخصّها و يمركزها. لهذا و كما آل سؤال فاس، كمكان، و كمجاز، في ديوان “ورقة البهاء”، إلى الاصطدام بسلطة الأزرق، فإن نفس اللون سوف لن يتوقف، في التجربة الشعرية التي تعنينا، عند حدّ منابذة الألوان الأخرى و تحجيم مفعولاتها المختلفة و إنّما سيتخطّى هذا إلى التطويح بمجازات الكتابة، العري، و قرطبة، ثلاثتها، إلى مدار مغبش لا يقين فيه سوى يقين اليأس الذي يصنعه مجاز الزرقة:
تحيّة
تتركها معلّقة
بين عابرين
حديث عن دم لون في
لوحة
لم ترسم بعد
– قصيدة “الحبّ اختراع”، ص 34
أفليس منتهى اليأس من القبض على جسد امرأة، لا تتورّع عن الاختفاء و التفلّت، هذا الذي تغلّفه عبارة “دم لون في لوحة لم ترسم بعد” ؟! هل هي إيماءة استعارية إلى الرسام، رفيق هذا السفر الرمزي الخائب، بلا جدوى المخيّلة اللّونية في ما تعذّر على المخيّلة الشعرية أم هي تصدية و استرجاع لذات اليأس القاتل الذي يكرّسه مجاز عري مستحيل تتناوب على تصعيده إلى أقصى مقامات استحالته الرّسومات المصاحبة للقصائد ؟
فخلافا للوحات الداخلية التي اعتمد فيها الرسام الثنائية الحادّة: أبيض – أسود، نجده يختار للوحة التي تنبسط على وجه غلاف الديوان تعدّدية لونية سوف لن تزيدها الخلفية البيضاء إلاّ احتدادا و تأجّجا، على العكس من الخلفية السوداء التي تنتقص من إشعاع الألوان و قوتها. و إذا ما انطلقنا من أعلى واجهة الديوان فلن يكون في وسعنا، مثلا، تجاهل دلالة اللّون الذي دوّن به اسم الشاعر، ألا و هو الأحمر، باعتباره لونا يحيل على التوضّعات المأساوية، مثلما ذكرنا، و من هنا فما معنى أن يدوّن اسمه بالأحمر ؟ و ما معنى أن يدوّن عنوان الديوان بالأسود ؟ فهذا اللّون لا تقتصر دلالته على الظلام، الحزن، المأتميّة، و الرعب..؛ لأنه يردف إلى هذا الدلالة على الموت، الغياب، و، بالتالي، على اللاّلون !
إن اللّوحة تقترح، إلى جانب هذا، وجها أنثويا مكبّرا، متموضعا تموضعا أماميّا مع نسبة ميلان واضحة.. وجها طوليا، متطرّفا في انحداره، مشبعا بصرامة الوجوه الأنثوية المصرية، أو الإثيوبية، القديمة، منحوتا على مقاس الصمت الغامض لمحيّا نفرتيتي و متراميا ترامي الجغرافيا الصحراوية و ترامي صمتها الناطق. إنه وجه يحمل معناه الذي هو لامعناه.. وجه مقتلع من مجاله الجسدي، أي من طبقاته السّفلية التي صادرتها منه مقصدية الرسام و تمثّله لجمالية وجه الغلاف. فوجه غلاف “كتاب الحبّ” لاشك في أنه يستحث انتصاب وجه أنثوي مفصول عن جسده، و عن جوهره، المصادرين، في العمق، من لدن ثقافة ذكوريّة كانت، و لا تزال، مستحكمة في الذهنيات و الوجدانات، و فوق هذا فهو يتراءى وجها ساهما تجلّله كآبة، على قدر من الاستغلاق و التّسامي، و ينشقّ عن ثلاث بقع صفراء، شبه دائرية، تحيط بنقط ضئيلة تخلط بين الأخضر و الأصفر و البنفسجي، و هيئة مشعثة سوداء، أقرب ما تكون إلى جزّة شعر، تنبثق أسفل الخدّ الأيسر و يندلق منها خطّ أزرق ملتو يأخذ سبيله إلى الأعلى، صوب مدار البقع الصفراء الثلاث و النقط الضئيلة الهجينة لونيا.. وجه أصفر في لون الشمس، بمعنى أنه محمّل بدلالات الضياء، الائتلاق، البروز، و المزاج الهنيء، لكنه معيق عن الاندياح في الخلفية البيضاء لوجه الغلاف بسبب من حاجز لوني أسود هو بمثابة الظلّ المنعكس للخدّ الأيمن !
هذا من ناحية، و من ناحية أخرى يمكننا أن نتساءل: ما دلالة البقعتين الحمراوين، المتفاوتتين حجما، المرتكنتين إلى الزاوية التّحتية اليسرى لوجه الغلاف ؟ و أيضا ما دلالة التجاوب اللّوني بينهما و بين اسم الشاعر المطلّ عليهما بلونه الأحمر من سقف الواجهة ؟ ثم ما مغزى أن تحتوي كبرى هاتين البقعتين ضمير “الأنا”، و تطول قرينة التعريف “ال” في كلمة “الظّاهري”، المدوّنة، على شاكلة عنوان الديوان، باللّون الأسود ؟ فالضمير إن هو إلاّ قناع للذات الشاعرة، و قد كتب بالأسود الذي يفيد، من بين ما يفيده، الموت، الغياب، و اللاّلون، ريثما يرين عليه الأحمر الذي يؤشر، خارج تموقعه التوكيدي بإزاء الأحمر المكتوب به اسم الشاعر، على التداخل بين الموت و بين المأساوية. و لأن الأخضر الذي يعني الروعة و اتّقاد الخيال هو ما ستتلوّن به كلمة “القرطبي”، الموالية لكلمة “الظّاهري”، فهل مؤدّى هذا أن قرطبة، المرمّزة ببشائرية اللّون الأخضر، هي العزاء الخيالي للشاعر و الرسام، و لابن حزم كذلك، أمام التداعيات الكالحة للونين الأحمر و الأسود، و أوفى من هذا أمام البلاغة التّشكّلية و اللّونية لوجه أنثوي صموت، غامض، و منشرخ، يصرّ على أن ينظر نحونا حزينا يصطبغ محجرا عينيه السوداوين الغائرتين بالقرمزي المفتوح، كما حاجباه، و شفته العليا، و ظلّ الجانب الأيمن من أنفه، و الشّعر الذي تؤثّثه خصل ملوّنة بالبنفسجي ؟
سوى أن هذا العزاء سرعان ما ستفتر فاعليته، لماذا ؟ لأنه إن كان من طبيعة الأصفر، الذي يتشرّبه الوجه الأنثوي، أن يستدعي إلى جواره البنفسجي، الذي يعني جهومة النفس و قساوة الانتظار، فقد كان واردا، بقوة الأشياء، أن يستجلب الأخضر، الذي ارتدته كلمة “القرطبي” لونا مميّزا، إلى دائرة نشاطيته القرمزي المفتوح، اللّصيق بدلالة البهاء.
على أن التعدّدية اللّونية التي وسمت اللّوحة المرسومة على وجه الغلاف سوف تختزل من طرف الرسام، فيما بعد، إلى ثنائية لونية متقاطبة، طرفاها الأبيض و الأسود، و ذلك بدءا من ثني الغلاف، الذي يؤمّ اسم الشاعر و عنوان الديوان، المكتوبين بالأبيض ضمن مجال لوني أسود خالص، مرورا بظهره الذي يتنفّذ فيه الأسود كأرضية تنحفر في مجازها المأتمي، أفقيا و عموديا، أسطر قصيدة “أنا لا أنا”، و هي نفسها القصيدة التي يفتتح بها الديوان، و انتهاء إلى الرّسومات الداخلية التي لا تتواني عن تجذير جدل اللّونين الذي يترجم، في الجوهر، جدل الضياء و الدّكنة، اللّون و اللاّلون، أو الحياة و الموت.
لقد استأثر الأسود بظهر الغلاف من خلال اشتغاله كأرضية لونية – لالونية لاجمة لطاقة اللّون – اللاّلون الأبيض الذي انكتبت به هذه القصيدة، و انطلاقا من الرسم الداخلي الأول ستنقلب الأدوار فيمسي الأبيض خلفية تتخلّق في عرضها المراتب و التوضّعات المختلفة للجسد الأنثوي المتخيّل. هذا و إذا ما كانت الخلفية البيضاء، على وجه التحديد، تسدي خدمة إيجابية للألوان المتخلّقة في عرضها، من حيث إبرازها و تبئيرها، فإن ما سيجنيه اللّون الأسود في هذه الحالة، علاوة على استفحال ملموسيّته، هو تكييف مختلف هذه المراتب و التوضّعات لصالح دلالات الظلام، الحزن، المأتميّة، الرعب، الموت، الغياب، و اللاّلون.
و فيما عدا الرسم الأول الذي ينزع إلى محو قسمات الوجه الأنثوي، الذي يشكّل مادّة وجه الغلاف، مستبدلا إيّاها بخطّ أسود مقوّس يتفرّع عنه خطّ مماثل ينبتر منه امتداده المحتمل، في حين يتحوّل الازدواج اللّوني، الأسود و الأخضر، في السطرين الشعريين، المستقطعين من قصيدة “أنا لا أنا” كذلك، و المدمجين في سطر واحد ضمن لوحة الواجهة، إلى أحادية السواد، مع إرداف السطرين، الأول و الثاني، من القصيدة عينها، مدمجين هما الآخران في سطر واحد يحتل كامل مساحته النصيّة الأفقية، و منخرطا مع الخطّ الأسود المقوّس في علاقة دلالية مركبة: لونهما الأسود الموحّد و انفضاؤهما معا إلى اليأس الذي يتجلى في انحجاز هذا الخطّ عن امتداده أو، بالأولى، عن تمام تعيّنه وجها أنثويا، تجلّيه في الإقامة المرتجّة للأنا الشعرية في صلب استحالة الحبّ: “أنا الأندلسي المقيم بين لذائذ الوصل و حشرجات البين”، فيما عدا هذا الرسم، إذن، ستنحو الرّسومات الموالية إلى تمكين الوجه الأنثوي من قسماته الممحوة، بل و تمكينه حتى من جسده – عريه في بعض الحالات.
كذا تنهض الكتابة التشكيلية، في الديوان، بوصفها إبدالا جماليا و تعبيريا للكتابة الشعرية، عاملة، عبر ثنائية الأبيض و الأسود، على بناء نفسها، أوّلا، و أسلبة الأبعاد و الحجوم و الملامح الجسدية للمرأة، ثانيا، و ذلك في مرمى تبلور العري مجازا، أو ماهية جوهرية خليقة بالاحتفاء و التمجيد، بما يدحض عقيدة تاريخ ذكوري لم ينظر إليه سوى من زاوية كونه موضوعا لذّويا رخيصا رخص المرأة ذاتها في الوعي المجتمعي و القيمي. و لمّا نقول إبدالا فلأن “.. الجسد قد يكشف ما تخفيه اللفظة، و يعبّر بطريقة غير مباشرة، بل و هو أهمّ وسيلة من بين الوسائل غير المباشرة في التعبير و تعبيره أقدم تعبير، و التعبير الذي يتجاوز كلّ لغة تشترك فيها لغات العالم، لأنه كلام حيّ عضوي معيوش و منقوش في اللحم و العظم” .
إن الجسد الأنثوي الذي تناور به، دلاليا و تخييليّا و ترميزيا، مخيّلة الرسام يلوح مفصّلا وفق تقنية سريالية جارحة: أجساد ميثولوجية مكتنزة تذكّر بالتّصاوير البدائية للمرأة على جدران الكهوف، بحيث يكون الاكتناز علامة على الخصب و الحياة، و قد تمثل منبطحة على الأرض أو جاثمة على ركبتيها، تحاصرها، أحيانا، نظرات وجوه رجاليّة مرعبة تجمع بين شكل المينوتور، المخلوق الوحشي في المرويات الأسطورية الإغريقية، و بين الشكل الذّئبي الطافح شراسة و عدوانية. بيد أن هذه الأجساد لا تلبث أن تذوب، في بعض الرّسومات، في الضوء المعتم للخلفية البيضاء ليعاود الوجه الأنثوي الأزلي، الصامت، السّاهم، الكئيب، المرتعب، حضوره منبتّا عن حقيقته البدئية، عن عريه. و سيان حضر الجسد في كامل هيئته السريالية أو حضر الوجه بمفرده فدائما هناك يد مبهمة، متصلة أو منفصلة، لا تني تحضر بمحاذاة الجسد أو الوجه، مستثنية فقط الرسمين الأول و الأخير. و باعتبار السياق التشكيلي سياق رغائب متصادمة و تفاضلات قيمية أفلا يصح أن نقول إن اليد، بما هي أداة التّماس الأوّلي بين الجسدين، الذّكوري و الأنثوي، تشير إلى عجز الجسدين عن التواصل الخلاّق خارج سلطة متخيّل جمعي ينظر إلى المرأة كمحض فريسة جنسية جاهزة، و هو ما توحي به الأظافر الحيوانية البارزة في يد تحضر في رسم يشغله وجه مذكّر، ميثولوجي، يفيض نهما و بهيمية. ثم أو ليس الأمر، في المحصّلة، تعبيرا عن استحالة القبض على جوهرية العري خارج سلطة هذا المتخيّل و بمعزل عن أقانيمه الضاغطة.
فمن داخل متخيّل ضارب في التاريخ، و في تلابيب قدسيته، يحاول الفعل التشكيلي، في موقف كهذا تتقاطع فيه معنائية الحلال مع معنائية الحرام، و على منوال ما حاوله الفعل الشعري، مفصلة توضّع متجوهر للكينونة الأنثوية يغدو معها العري تملّكا رمزيا للمقدس و ترتيب أوفاق تصالحه، إن شئنا، مع ما يعتبر مدنّسا أنثويا، بحيث إن “.. المقدس و الدنيوي لا ينقسمان في العمل الفني لأنهما ينتميان إلى لغته و لأن المقدس جزء لا يتجزأ من الإنسان” . و لعلّ التوسّل بتشكيلات جسدية سريالية، حالمة، و فوق ذلك عارية، تقتات على استيهامات الحرام، الدّنس، و الشّر، ينصبّ في هذه الوجهة، وجهة انتهاك عالم يزري بالمرأة باسم المقدس. ف “.. إذا كان الشعر اغتصاب العالم باللغة فإن اللّوحة هي اغتصاب العالم كموقف إنساني باللّون و الشكل، فاللّوحة رغم بعدها الواحد تفاجئك دائما بداخلها و كأنها تبوح لنا باللذّة عند اكتشاف الجوهر، إنها حلم ممتع تحمل الإنسان نحو مدن الصمت و العذاب و الموت” . جائز أن “.. الإنسان عندما ينام يرى في أحلامه مدنا خضراء، أناسها ملحميون لا يمتلكون أبعاد أجسادهم بقدر ما يحسّون وجودهم الأرضي. و لكن المرأة في الحلم تظلّ تخلق جوّا يتطلب التوتر و اليقظة للتمكّن من تحسّس أبعادها. إنها لا تمنح الراحة حتى في قمّة اللذّة لأن الرجل يظلّ عند حافّة الانزلاق في بحر الجسد ذلك السفر اللذيذ المتعب” .
و إذن هل في مكنتنا إدراج اللّون الأخضر الذي لوّنت به كلمة “القرطبي”، المثبتة في وجه الغلاف، ضمن هذه الرؤية ؟ و هل نستطيع كذلك تأويل الخطّ الأزرق، المرسوم في صورة وجه الغلاف دائما، كجدول أو نطفة منه / منها سينشأ بحر الجسد الأنثوي الذي تستضمره لعبة الأبيض – الأسود التشكيلية ؟ فالبحر متاه لا بأثر من تخوميته المائية فقط، بل و أيضا جرّاء ما تضفيه عليه الزّرقة من لانهائية و مجهولية. لذا فإن السفر في الجسد، كما في البحر، لهو، يقينا، سفر في المجهول الذي يبلبل، بسطوته المجازية الكاسحة، جماع اليقينيّات: يقين الكتابة التشكيلية.. يقين العري.. يقين قرطبة مخضرّة.. التي التمعت ومضات مجازية على امتداد الديوان، و لا يبقي للرسام غير يقين اليأس المشعّ كتلة ضوء هائلة من حقارة ذلك الخطّ الأزرق، و غير الموالاة الأخلاقية اللاّمشروطة لسؤال المرأة، و تسخير التخييل التشكيلي التجريدي، المشبع أسطورية، للتعبير عن هذه الموالاة، إذ “.. من خلال المنظور الأسطوري يمكن إدانة الطّهر و التسلّط التاريخي الذي يمارس ضدّ المرأة” .
إن تجربة شعرية على هذا القدر من المراهنية، بله الحدودية، ليس مطالبة بأن تستوفي مطلق مقاصدها الجمالية و الرؤياوية، بحيث يكفيها أنها، و هي تقترب من موضوع شعري شائك كموضوع الحبّ، قد وفّقت إلى الزّج بالكتابة في ذلك القعر المدلهمّ، الخلاّق، المحسوب على الشّر، الإثم، و الخطيئة، و الذي اقتدرت تجارب شعرية سابقة على اختراقه لأنها خوّلت للخيال الشعري منتهى حريته في استكشاف تلك الطبقة الذهنية و الشّعورية و الحسّية المذهلة، القابعة تحت سطح الفضيلة، الاستقامة، و الطّهرانية. و سواء تعلق الأمر بامرئ القيس، أو بعمر بن أبي ربيعة، أو بمسلم بن الوليد (صريع الغواني)، أو بإلياس أبي شبكة، في ديوانه “أفاعي الفردوس” (1948)، أو بحسين مردان، في ديوانه “قصائد عارية” (1950).. فإن تجارب هؤلاء الشعراء لتبيّن إلى مدى أمكنهم إرخاء العنان لأرواحهم و أجسادهم و مخيّلاتهم في اختراق أغوار الحبّ، و ، بالتالي، أغوار المحرّم. ذلك “.. أن موضع الخير يوجد خلفنا، و بمرافقتنا للشّر و تحالفنا معه يصبح في مقدورنا تجلية أثر الفردوس المفقود، و تفعيل الأدب كهبوط إلى الجحيم (…) لكن من أجل أن يحقّق خلاصه” . و لأن الجحيم هو موئل الموت بامتياز فإن انفتاح الكتابة الشعرية على موضوع الحبّ هو، أصلا، انفتاح على شعرية الغياب، التبدّد، و الامّحاء، التي يشكّل الجسد الأنثوي البرزخ الرمزي إلى جوهرها، ف “.. المرأة ليست سوى ذلك الغلاف المبيد للكينونة الذي تردّت من خلاله صورة السماء” .
حقّا “.. إن الحداثة آثمة” ، و لكي تنسجم مع إثميتها فهي ليست مدعوة فقط إلى التنصّل من جاذبية الأخلاقية الشعرية التقليدية، لغة و تراكيب و إيقاعات و أساليب، بل هي ملزمة، كذلك، بالانزياح عن طهرانيتها الموضوعاتية و التخييليّة. فالحداثة لا تعني إبدال نظام سكوني و اتّباعي بآخر دينامي و طليعي، و لكنها تعني، أيضا، إبدال القيم الموضوعاتية و التخييليّة، و إعادة الاعتبار للمسكوت عنه، و السّاقط، و المسترذل، و المستبشع، أي وصل الذات الشاعرة بجذرها الطّيني و بأشواقها الجحيمية على الغرار ممّا نلقاه في الحداثة الشعرية الغربية، و بخاصة في تجارب إدغار ألان بّو، شارل بودلير، بول فرلين، آرثور رامبو، سيزار فاييخو، و سيرغي يسنين..
إن اللحظة الشعرية، العشقية، التي شادتها هذه التجربة، متوسلة بمجازات الانكتاب، و العري، و قرطبة، و الزّرقة، إن هي إلاّ انبساط للكثافة الطّينية لذلك الليل الأصلي، ليل التّحتانية المروّعة، لكن النيّرة:
لك هيّأت ليلة بحنّائها
هيّأت شرفة تقرّبني
من رياحين فاس
و قلت لوشمة
ترقرقني
نديّة فوق هبوب شوقها
………………
– قصيدة “هيّأت”، ص 63
فحتى يتمّ الاقتراب من فاس.. ومن روح المرأة الأولى.. لم يكن هناك من خيار أمام الذات الشاعرة سوى أن تدلف إليهما من خلل ليل التّحتانية الأندلسية الباذخة. فالاقتراب من فاس لهو، في صميمه، اقتراب من قرطبة، بينما الاقتراب من المرأة الأولى هو، في عمقه، اقتراب من كلّ النسوة المنتميات إلى الكونية الأندلسية. من هنا فليست هذه الذات هي من تتصالح لوحدها مع رحمها الأموميّة، التي اقتلعت منها على حين غرّة، و إنّما هو تصالح فاس، هي الأخرى، مع ذاكرتها الأندلسية، لأن السقوط الرمزي الذريع من الرّحم البدئية بقدر ما مسّ الكينونة الإنسانية طال، أيضا، كينونة المكان.
لقد عدّ مارتن هايدغر الإغريق بمثابة المهندسين الأوائل للوجود، و من ناحيتنا أفلا يصحّ أن نعتبر نحن الأندلسيين بمثابة المهندسين الأوائل لفنّ التمتّع بالوجود، أي لفنّ إذابة صلادته و تليين تخشّبه بحثا عمّا وراء الصّلادة و التخشّب من نعماء و مخمليّة. بهذا المعنى فإن المرور من ليل التّحتانية الأندلسية الباذخة يفيد عبور لحظة يمتزج فيها نشيج الفقراء ببحبوحة الميسورين.. رصانة المتعقّلين باستهتار اللاّمبالين.. مناورة السّياسيين بتخيّل الشعراء.. جدال العلماء بقهقهة السّكارى.. أي بشريحة وجود كانت تداري مصيرها الكارثي المبطّن عن طريق تلك المزاوجة الرفيعة و النادرة بين مقتضى المعاش و مقتضى المعاد.. بين استعارية “الهنا و الآن” و استعارية السقوط الآجل.. بين البهجة و الألم. و لمّا تهجس القصيدة، مثلا، بنكبة شاملة رديفة:
يا حارس الأرجاء بين مرسية و بغداد
يا واهب الشمس طيفا تقوده في ردهة المحال
يا موقد النار في سفن تحتاج لنكبة أخرى
أين صديقي ابن حزم ؟
– قصيدة “جنون من ؟ “، ص 99
فليس بحوزة الشاعر إلاّ أن يردف إلى الجرح الأندلسي جروح الحاضر العربي.. جرح ابن حزم و جرحه هو.. كيما يتأتّى له أن ينتزع من مأساوية سقوط شامل، ذريع، انفراجة غبطوية تعتاش عليها الكتابة الشعرية، تماما كما لم يكن في وسع الشاعر الروماني سينيكا سوى أن يلوذ بالحبّ من النار، ممجّدا جاريته الإسبانية الفاتنة، و مدركا أن رؤيته لروما يحرقها جنون نيرون قد تكون أكثر نفادا و مأساوية إن هو أردف إليها رؤياه لحرائق أخرى مستعرة: حريق جسده.. حريق جسد حبيبته.. و حريق الخيال في ليل الحبّ و الشعر.. لقاء أن يعثر للقصيدة على فسحة فرح في عزّ الكارثة. “.. إن الفنّ باعتباره تصييغا سيميوطيقيا للرمزي فإنه يمثّل بذلك أحد أشكال تدفّق المتعة داخل اللغة. و إذا ما كانت التضحية هي ما يعيّن “الحدّ” الإنتاجي للمتعة في نطاق النظام الرمزي و المجتمعي فهو، أي الفنّ، يقوم بضبط الوسيلة – الوحيدة – التي تقي بها المتعة ذاتها من أجل أن تتسلّل إلى لبّ هذا النظام” ، لتنغرس في جوفه توقا، جنونا، و حرية وجودية بلا ضفاف:
و أنا يا ابن حزم
رافقتك في ألفتك و محبّتك
و رافقنا سواي
لم أخش عزلة مباركة
لأنها مسكني الأخير
لم أضيّع صداقه
وهبت لي ضوءا و غزالة
في عهد عنف
ليس
عهدي
– قصيدة “رسالة إلى ابن حزم”، ص 130
فعلا، لقد كانت رفقة أو، لنقل، لقاء بين صديقين رمزيين، و من صلب تقاطعات، متعاطفة إلى أقصى الحدود، تخلّقت هذه التجربة الشعرية لابسة لبوس سؤال أونطولوجي عميق حول معضلات الكتابة، الجسد، الزمن، المكان، و الغياب. و رغما من القرابة الروحية بين الصديقين فإن هذا الاعتبار لم يكن ليشكّل نوعا من تعلّة لتحوّل “كتاب الحبّ” إلى نسخة ظلّية ل “طوق الحمامة”، ذلك لأنه حتى لو انتهينا، فرضا، إلى هذه الخلاصة فإن من أجلى بديهيات التعالق الأدبي كون “.. المحاكاة تعتبر، هي نفسها، بدون أدنى شك، تحويلا، لكن وفقا لمسطرة أكثر تعقيدا” . إن المسألة تفيد، على العكس من هذا، محاولة لإعادة كتابة “طوق الحمامة” من موقع حداثي صرف، أي تحديث المكتوب العشقي في مؤلّف نثري قروسطوي و مدّه بحيوية جديدة تتيحها له وسائط أداء حداثية، سواء على مستوى اللغة، أو التعبير، أو الإيقاع، أو التخييل، أو الرّسومات المصاحبة، و كذا ترهين شخوصه، أزمنته، أمكنته، و محكياته، بإدراجها في نسيج الحياة المعاصرة، الشيء الذي يجعلنا وجها لوجه أمام “.. طوق آخر ل “طوق الحمامة”، فيه تتألّف لحظة الحسّ و ديمومة العشق، و فيه تتآلف نشوة الجسد و نعمة الحبّ. كتاب – طوق لا يودّع الماضي، بل يستبقيه، فيما يستبق المستقبل ليجعله حاضرا. كأنه يدخلنا إلى محيط الجسد على ذروة الموج” .
و كما في قصة الطّوفان حينما يعهد إلى الحمامة بأن تستشرف رجحان تمخّض الأفق عن بشرى يابسة تفتكّ البشر من زرقة البحر، تعهد المخيّلة، في هذا الموقف الشعري، إلى حمامة رمزية، مطوّقة بالمودّة، بأن تسوح في أعالي الروح و في رحابات الكينونة عسى أن تظفر عيونها بيابسة تصلح موطنا للذات و للكتابة، فكانت اليابسة القرطبية، حيث تقطن تلك المرأة الأولى، و حيث يقيم صديق رمزي اسمه ابن حزم. في هذه اليابسة سوف تركز اللحظة الشعرية، العشقية، إقامة جزافية يسع حيّزها قلم الشاعر، و قلم ابن حزم، و ريشة رسام معنيّ، هو الآخر، حدّ الجنون بمجاذبة أطراف الكتابة، لا الكلام، في شأن امرأة لا تقوى إلاّ البصائر المتّقدة على ملامسة أطايب هواها و مواجعه.
تلك المرأة.. أو لم تسبغ عليها الكتابة وشاحا خليقا بجسدها المستحيل ؟ أو لم يغدق عليها التخييل ما كانت تحوجه من وشوشة و أنس ؟ أو لم تنل الحبّ، سخيّ الحبّ.. وافره.. و منتهاه.. عوضا عن وداعة رجال ما أن سدّدوا لها قدميها الرّهيفين على الدّرج الأول من مهوى الغياب حتى أقفلوا راجعين إلى الرّونق المبتئس للديمومة من غير أن يعيروا بالهم لاستفهام مدمّر كان قد تفتّق للتّو في كيان طفل بمجرد ما أنبأه حدسه أنها سافرت إلى غير رجعة حتى تلعثم متسائلا: أفلن تكون قد أخذت الطريق إلى قرطبة يا أيها الخواء القيامي، المطبق ؟ و لأن الخواء لم يكن في مستطاعه أن يقدّم للطفل، في تلك الآونة، غير الخواء فقد وطّن نفسه على التريّث، منتظرا أن يدلّه الخواء الأشمل، من يدري، على امرأة تسكن، منذ فجر الخليقة، في حيّ قرطبي يعجّ بأعراق و ألسن.. شعراء و فلاسفة.. موسيقيين و مناطقة.. سادة و عبيد.. أغنياء و عيّارين.. خيّرين و أنذال.. متّقين و جانحين.. كان يرتسم في خلدهم، سلفا، أن امرأة كانت تلتئم، ببطء، في رحم التاريخ، اسمها إيزابيلا.. حتما أنها كانت تنوء بجسدها الإيبيري الفائر، و بدل أن تسهو عن مفاتيح أندلس برمّتها، و ليس عن مفاتيح غرناطة لوحدها، في لحظة شعرية، عشقية، مع لسان الدين بن الخطيب، ذلك الفتى الأندلسي الفذّ، سوف تلقي بها إلى بئر الضّغينة و الشّنآن. و إذ أوصدت أبواب أندلس، أعزّ من أن تتكرّر كما قال فديريكو غارسيا لوركا، فإن القصيدة يصعب عليها أن توصد أبوابها في وجهها، و من ثمّ فإن سمات من جسدها الملوكي.. من لثغتها القشتالية.. و شواظّ من عمائها الديني، من جنونها الفروسي، لابد و أن تكون مبذورة في هويات نساء استبدلن مأساوية الاقتلاع و الشّتات بمأساوية التجذّر في الإقامة الجزافية التي ابتنتها لحظة شعرية، عشقية، لن تلبث أن تغدو لحظة مجازية زرقاء، بله مستحيلة ! و مع كونها مستحيلة فقد أصرّ الحلم الشعري على تحسّسها، استنهاضها، و، بالتالي، على تعيينها، لأن هذا الإصرار هو ما يمكن أن يصون للطفل إقامته في مخيّلة الشاعر.
لقد أشرنا، في مفتتح هذه المقاربة، إلى أن أحد مطامح هذه التجربة الشعرية هو أن تتخذّ هيئة كتاب، و ذلك بكلّ ما تنشحن به هذه الكلمة من حمولة و رمزية، لكن إذا كان ما انشغلت به الكتابة، التي هي كلمة مؤنّثة، هو استعادة جسد تلك المرأة الأولى، أفلا يصير من حقّنا، و الأمر كذلك، أن نقول إن الكتابة و هي تتعقّب آثار امرأة مستهامة كانت، في الحقيقة، تتعقّب آثار جوهرها الأنثوي.. آثار جسدها الشّهواني.. على مدى تلك المسافة الفاصلة بين المذكّر و المذكّر، أي بين الشاعر و الكتاب ؟ بل “.. ألا نتعامل نحن الرّجال مع الإبداع في حدّ ذاته كأنثى ؟ ألا نتمتّع به ؟ ” .بنعيسى بوحمالة