الجزء الخامس : سيادة الهامش
5.
في جميع هذه النصوص يتفقّد النثر ضوءَ الشعر كما لو كان ضوءَه الخاص. لا لأن النثر لا يوجد إلا بالشعر، بل لأنه يحتاج إلى ضوء الشعر كما لوْ كان يحتاجُ إلى صاحب يرافقه في طريق المغامرة، إلى أخ أو إلى أحد أفراد العائلة. ربما يكون ضوءُ الشعر لعبة يلهو بها النثر. لكنه لا يتخلّى عنها.
وضوءُ الشعر، من جهته، يسيرُ إلى جنب ضوء النثر حتى لا حاجزَ بينهما في الكتابة، سوى درجة كثافة الشعر التي يحتفظ بها ويحافظ عليها. فالشعرُ يعرف أن كثافة ضوئه تتضح في خارجه، في ضوء النثر الذي بدوره يلهُو بلعبة الشعر. لعبة تختلف بين الشعر والنثر، لأن عناصرها وقواعدها مختلفة، من البسيط إلى المركّب. ومن خلالها تنشأ عوالمُ متباينة في الإيقاع، في الصورة، في التركيب، في الفضاء البصري، بالنسبة للشعر؛ وفي بناء الفقرة، في الحكاية، في التصوير، في الاستشهاد، في المفهوم، في التحليل، في البرهان، في الخلاصات، بالنسبة للنثر.
6.
ذلك هو المعنى الذي يمكنني أن أعطيه لهذه الأعمال النثرية، وتلك هي قيمتُها. انطلقت كتابة نصوصها منذ 1981، وفي كل عمل كانت مغامرة الكتابة تكاد تستقل بذاتها. مع ذلك لم أكتبْ نصوصَ كل عمل من الأعمال في تسلسل زمني، له البداية والنهاية. كانت كتابة النصوص تتوزع عبر فترات تطول وتقصر، وغالباً ما لم تكن وحدة العمل مهيمنةً في عملية الكتابة أو في عملية جمع النصوص وإعطائها عنواناً يمنحها شكل كتاب.
هذا ما أقصد عندما أشير إلى أن الأعمال النثرية هي مجموعة نصوص مستقلّة بذاتها، كتبتُها منذ الثمانينيات حتى اليوم. كنتُ أستقبل بعضها بنشوة وبعضها كان ملازماً لحياتي الشعرية والثقافية ومتفاعلاً مع مبادئ ومواقف لا أتنازل عنها. وكنتُ في كتابتها أقتفي خطوات شعراء حديثين في كل من العالم الغربي والعربي. فإذا كان كلٌّ من أبي العلاء المعري ولسان الدين بن الخطيب من أكبر الشعراء العرب القدماء، الذين ألّفوا أعمالاً في الشعر والنثر، فإن كتابة الأعمال النثرية من طرف الشعراء انطلقت بوضوح في الغرب الحديث مع الشاعر دانتي، وأصبحت لاحقاً من خصائص الشعراء وطقوس الكتابة لديهم.
7.
وكان لا بد لي، وأنا أقدم على جمع هذه الأعمال النثرية وتهيئتها للنشر، أن أضيف نصوصاً لم يسبق لي نشرُها في عمل من الأعمال. وحرصتُ، في الوقت نفسه، على أن أمارس ما تتطلبه الكتابة من إعادة الكتابة، بمعناها الشامل. فأنا أعتقد أن جمع الأعمال لحظاتٌ يؤدي بعضُها إلى بعض، ويتجاوب بعضُها مع بعض. ونظراً لأني كنت استفدتُ من نصوص في كتابة أعمال أخرى، أو كتبتُ نصوصاً في ظروف عابرة ولم تعد تجد لها مكاناً في كتاباتي، فقد عملتُ على حذف نصوص وإعادة ترتيب أخرى، أو نقلتُها من كتاب إلى آخر، حسب ما يقتضيه بناءُ الأعمال النثرية في كليتها. كما أنني راجعتُ صياغات، بدّلتُ وصوّبت، اهتداءً بمنطق الكتابة واحتراماً لحدودها.
