الأعمال الشعرية (الجزء الثاني)

0
سجل محمد بنيس في مقدمة الأعمال الشعرية

“… تعلمت منذ البدء أن السفر إلى القصيدة يتطلب الصبر، وأن الفعل الشعري هو فعل كتابة يفرض اعتماد سلوك التخلي عما يشوش على القصيدة. نسكية علمتها لي القصيدة. وبالضبط تلك التي كانت تمثل تجربة شعرية، لها قيم الحرية والجمال في آن. قدماء وحديثون يجتمعون في مكتبتي وذاكرتي. عرب وأروبيون. بذلك ارتبط فعل الكتابة الشعرية بمعرفة الكيفية التي لي بها أن أكتب قصيدة أسمي بها زمني. لم تكن القصيدة منفصلة لدي عن الزمن. وذلك كان يفضي إلي السؤال بلا مواربة عن معني الزمن وعن معني الشعر في أفق الحداثة. وهنا لربما يكمن السبب الذي جعلني علي الدوام شديد الحرص علي قراءة الأعمال النظرية والنقدية التي تضيء لي القصيدة الحديثة أو الشعر. أعمال فكرية، جمالية، تاريخية، علمية. وفي الفيزياء كان ثمة إغراء يتبلور، شيئا فشيئا، في مراقبتي لما يحدث في الكلمات وبين الكلمات. تلك القصيدة الأولي، الرومانسية، التي كنت عثرت علي ألفتها، لم تصاحبني إلا فترة قصيرة، عندما أحسست بأن قصيدة بدر شاكر السياب (ومعها القصيدة العربية المعاصرة) هي الأقرب إلي نفسي. ما زلت أتذكر العلاقة التي كانت نشأت لي مع بدر شاكر السياب، وأنا أقــرأ ثم أقرأ شعراً يؤالف بين الغنــاء والاستكـشاف والعذاب. دهشة القصيدة. ومنها أخذت أطل علي أرض هي الشعرالعربي المعــاصر. دواوين تتجمع في مكتبتي الصغــيرة وأنا أطـــوف بمكتبات المدينة القديمة، بين زنيقت الصوافين و الـطالعة الصغيرة . مجلات، منها الآداب . أسماء الشعراء المعاصـــرين تتضح. عبد الوهــــاب البياتي، يوسف الخال، صـلاح عبد الصبور، خليل حاوي، بلند الحـــيدري. واسم الحيرة الشعرية أدونيـــس، الذي كان آخر من تعرفت عليهم من هؤلاء الشعراء.
سنوات كنت فيها أنصت، أيضا، للقصيدة الأوروبية الحديثة، من بودلير إلي ملارمي، ومن هلدرلين إلي ريلكه، ومن ييتس وويتمان إلي إليوت وإزرا باوند، ومن لوركا إلي ماتشادو وبابلو نيرودا. أعمال أخري كانت بدورها حاضرة من ثقافات وحضارت. أذكر هنا الكوميديا الإلهية لدانتي التي كانت تتركني (في ترجمتها العربية) منبهراً لأيام. سلالة شعرية تتقاطع مع سلالتي العربية، من امرئ القيس إلي المتنبي، أو من طرفة بن العبد إلي ابن خفاجة، ومن جميل بثينة إلي الحلاج وأبي حيان التوحيدي. دواوين وكتابات عربية تتقاطع وتتناجى مع تجارب شعرية. كتابية. كونية. بها أتعرف على الزمن الشعري الذي هو ما يعنيني في الكتابة.”

حياة في القصيدة
مقدمة

الأعمال الشعرية
( الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمان، بالتعاون مع “دار توبقال” في الدار البيضاء، في جزئين ، طبعة أولى سنة 2002 )